السؤال
في آية القصاص: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَى ـ فالحد إذا قتل رجل حر عبدا ـ ولو كان مسلما ـ فإن رقبة الحر لا تقطع، بل يكتفى فقط بالدية، أما العكس فليس كذلك، ونفس الكلام مع الرجل والمرأة، حيث إذا قتل رجل امرأة فإنه لا تقطع رقبته، بل يكتفى فقط بدفع الدية أيضا، أما إذا قتلت المرأة الرجل فالقصاص هو الحكم عليها، إلا إذا عفا أهل الميت، فهل هذا هو التفسير الصحيح للآية؟ حيث إنه لا يهدأ لي بال أبدا كلما أتذكرها، وصارت حديث الساعة بالنسبة لي، ومما لا شك فيه أن الإسلام لن يظلم عبدا مسكينا ليس له ذنب إن قيدت حريته رغما عنه، حيث إن عتقه فيه ثواب كبير، لأنه إنسان وحقه مثل حق البقية، وما هو التفسير الصحيح؟ وهل إذا قتل رجل حر عبدا فإنه لا يقتل؟ أما إذا قتل العبد الحر فإن الوضع مختلف.
وجزاكم الله كل خير.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس ما ذكرته هو التفسير الصحيح للآية، بل الآية مبينة لحكم ما إذا قتل أحد الأنواع من يماثله كالحر إذا قتل حرا والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، وأما إذا قتل أحد الأنواع الآخر فحكمه مستفاد من نصوص أخرى، وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ {المائدة:45}.
قال القرطبي رحمه الله: قالت طائفة: جَاءَتِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ النَّوْعِ إِذَا قَتَلَ نَوْعَهُ، فَبَيَّنَتْ حُكْمَ الْحُرِّ إِذَا قَتَلَ حُرًّا، وَالْعَبْدُ إِذَا قَتَلَ عَبْدًا، وَالْأُنْثَى إِذَا قَتَلَتْ أُنْثَى، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ إِذَا قَتَلَ الْآخَرَ، فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَفِيهَا إِجْمَالٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ {المائدة: 45} وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُنَّتِهِ لَمَّا قُتِلَ الْيَهُودِيُّ بِالْمَرْأَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ. انتهى.
ولذا، فإن المرأة لو قتلت رجلا قتلت به، وكذا لو قتلها رجل، فإنه يقتل بها، قال القرطبي: أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل. انتهى.
وأما الحر إذا قتل عبدا: فإن العلماء اختلفوا في هذه المسألة، فمنهم من رأى أن الحر يقتل بالعبد وهو قول الحنفية وجماعة من السلف، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ومنهم من رأى أن العبد لا يكافئ الحر، ومن ثم فلا يقتل به لنقصه عن رتبته، وليس في هذا تنقص لآدمية العبد ولا استخفاف بحقه، ولكنه لما كان مملوكا لم يكن مكافئا للحر، فلا يلزم في قتله إلا الدية على هذا القول، قال القرطبي مبينا هذا الخلاف: وَاتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عَلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ علي وابن مسعود ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ بْنُ عتيبة، وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يَقْتُلُونَ الْحُرَّ بِالْعَبْدِ، لِلتَّنْوِيعِ وَالتَّقْسِيمِ فِي الْآيَةِ.
وقال ابن قدامة رحمه الله: ولا يقتل حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ، لِعُمُومِ الْآيَات وَالْأَخْبَارِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ـ وَلِأَنَّهُ آدَمِيُّ مَعْصُومٌ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ، وَلَنَا، مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ ـ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ـ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَلِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ مَعَ التَّسَاوِي فِي السَّلَامَةِ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ كَالْأَبِ مَعَ ابْنِهِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ، فَلَمْ يُقْتَلْ بِهِ الْحُرُّ، كَالْمُكَاتَبِ إذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي، وَالْعُمُومَاتُ مَخْصُوصَاتٌ بِهَذَا، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ. انتهى.
ورجح الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ أن الحر يقتل بالعبد، للعمومات، ولعدم انتهاض ما يخصصها، قال رحمه الله: قوله: ولا حر بعبد ـ أي: لا يقتل الحر بالعبد، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فالمذهب أن الحر لا يقتل بالعبد، لأن الحر أكمل من العبد، إذ إن العبد يباع ويشترى، وديته قيمته، فلا يمكن أن يكون ما يباع ويشترى مكافئاً للحر، ولهم أحاديث، لكنها ضعيفة، منها: لا يقتل حر بعبد ـ ولهذا ذهب أبو حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو رواية عن أحمد، إلى أن الحر يقتل بالعبد، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم ـ وهذا القول هو الصواب. انتهى.
وإذا علمت هذا زال عنك الإشكال في الآية، فإنه على القول بأن الحر يقتل بالعبد، فلا إشكال أصلا، ولا إشكال كذلك على القول الثاني للوجه المذكور من الأثر والنظر.
والله أعلم.