السؤال
سؤالي في الرقائق: هل توحيد الخوف والرجاء هو الطريق الموصل إلى التوكل واليقين؟ وهل هذا التوحيد هو الذي ينجي الله به أولياءه من شدائد الدنيا والآخرة؟
سؤالي في الرقائق: هل توحيد الخوف والرجاء هو الطريق الموصل إلى التوكل واليقين؟ وهل هذا التوحيد هو الذي ينجي الله به أولياءه من شدائد الدنيا والآخرة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الطريق التي يصل بها المسلم إلى تحقيق التوكل على الله، قد شرحها ابن القيم بكلام نفيس جامع، فقال -بعد ذكره لأقوال العلماء في حقيقة التوكل-:
وحقيقة الأمر: أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور، لا تتم حقيقة التوكل إلا بها. وكل أشار إلى واحد من هذه الأمور، أو اثنين أو أكثر.
فأول ذلك: معرفة بالرب وصفاته من قدرته، وكفايته، وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.
الدرجة الثانية: إثبات في الأسباب والمسببات؛ فإن من نفاها فتوكله مدخول. وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي: أن إثبات الأسباب يقدح في التوكل، وأن نفيها تمام التوكل.
فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل البتة؛ لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه.
الدرجة الثالثة: رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل؛ فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده. بل حقيقة التوكل توحيد القلب.
فما دامت فيه علائق الشرك، فتوكله معلول مدخول. وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل، فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه، فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة، ومن هاهنا ظن من ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب. وهذا حق، لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح. فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب، وتعلق الجوارح بها، فيكون منقطعًا منها متصلًا بها.
الدرجة الرابعة: اعتماد القلب على الله، واستناده إليه، وسكونه إليه، بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب، ولا سكون إليها، بل يخلع السكون إليها من قلبه. ويلبسه السكون إلى مسببها.
وعلامة هذا: أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها، ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها، وإقبال ما يكره؛ لأن اعتماده على الله، وسكونه إليه، واستناده إليه، قد حصنه من خوفها ورجائها.
الدرجة الخامسة: حسن الظن بالله عز وجل؛ فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه. ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله، والتحقيق: أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه؛ إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به، ولا التوكل على من لا ترجوه.
الدرجة السابعة: التفويض. وهو روح التوكل ولبه وحقيقته، وهو إلقاء أموره كلها إلى الله، وإنزالها به طلبًا واختيارًا، لا كرها واضطرارًا؛ بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره كل أموره إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته، وتمام كفايته، وحسن ولايته له، وتدبيره له، فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه، وقيامه بمصالحه وتوليه لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها. اهـ. باختصار من مدارج السالكين.
وقد سبق أن بيّنّا لك حقيقة التوحيد شرعًا في إجاباتنا لك في الفتوى رقم: 268288. وتجد فيها أن من توحيد الله -جل وعلا- إفراده بالتوكل والاعتماد.
وتوحيد الله لا ريب في أنه من أسباب النجاة من الكربات والشدائد؛ قال ابن القيم: فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فهو الذي بيده الحول كله والقوة كلها، فالحول والقوة التي يرجى لأجلهما المخلوق ويخاف، إنما هما لله وبيده في الحقيقة، فكيف يخاف ويرجى من لا حول له ولا قوة؟! بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك، وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، وهذا حال الخلق أجمعه، وإن ذهب عن أكثرهم علمًا وحالًا. فما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن ولو اتفقت عليه الخليقة.
ثم قال: التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه، فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها؛ {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}. وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها، ولذلك فزع إليه يونس، فنجاه الله من تلك الظلمات، وفزع إليه أتباع الرسل، فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة، ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل. هذه سنة الله في عباده؛ فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد، فلا يلقي في الكرب العظام إلا الشرك، ولا ينجي منها إلا التوحيد، فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها. اهـ. من بدائع الفوائد.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني