الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالمقصود باليهود في قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] جنس اليهود، لا كلهم وجميعهم، فـ (ال) التعريف هنا لبيان الجنس، لا للاستغراق، والمراد هو بيان جنس من قال بهذا القول، لا أن جميع اليهود قالوا ذلك. وإنما صح التشنيع على جنس اليهود بذلك؛ لأن بقيتهم لم تنكر على قائل هذا المنكر الفظيع.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الآية: كلهم قالوا ذلك أم بعضهم؟ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: يؤتى باليهود يوم القيامة، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون العزير... الحديث. هل الخطاب عام أم لا؟
فأجاب: الحمد لله، المراد باليهود جنس اليهود، كقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} لم يقل جميع الناس، ولا قال: إن جميع الناس قد جمعوا لكم؛ بل المراد به الجنس. وهذا كما يقال: الطائفة الفلانية تفعل كذا، وأهل الفلاني يفعلون كذا. وإذا قال بعضهم، فسكت الباقون ولم ينكروا ذلك، فيشتركون في إثم القول. اهـ.
وقال الماوردي في تفسيره: واختلف فيمن قال ذلك على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن ذلك كان قول جميعهم، وهو مروي عن ابن عباس.
والثاني: أنه قول طائفة من سلفهم.
والثالث: أنه قول جماعة ممن كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلف فيهم على قولين:
أحدهما: أنه فنحاص وحده، ذكر ذلك عبيد بن عمير وابن جريج.
والثاني: أنهم جماعة وهم: سلام بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، وهذا مروي عن ابن عباس.
فإن قيل: فإذا كان ذلك قول بعضهم، فلم أضيف إلى جميعهم؟ قيل: لأن من لم يقله عند نزول القرآن لم ينكره، فلذلك أضيف إليهم إضافة جمع، وإن تلفظ به بعضهم. اهـ.
وقال ابن الجوزي في تفسيره: فإن قيل: إن كان قولَ بعضهم، فلِمَ أُضيف إلى جميعهم؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن إيقاع اسم الجماعة على الواحد معروف في اللغة، تقول العرب: جئت من البصرة على البغال، وإن كان لم يركب إلا بغلاً واحداً.
والثاني: أن من لم يقله، لم ينكره. اهـ.
وقال الرازي في تفسيره: نسب ذلك القول إلى اليهود، بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد، يقال: فلان يركب الخيول، ولعله لم يركب إلا واحدا منها. وفلان يجالس السلاطين، ولعله لا يجالس إلا واحدا. اهـ.
وقال ابن حجر في فتح الباري: قال ابن العربي في شرح الترمذي: تبرأت اليهود في هذه الأزمان من القول بأن العزير ابن الله، وهذا لا يمنع كونه كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك نزل في زمنه، واليهود معه بالمدينة وغيرها، فلم ينقل عن أحد منهم أنه رد ذلك، ولا تعقبه. والظاهر أن القائل بذلك طائفة منهم لا جميعهم، بدليل أن القائل من النصارى: إن المسيح ابن الله، طائفة منهم لا جميعهم، فيجوز أن تكون تلك الطائفة انقرضت في هذه الأزمان، كما انقلب اعتقاد معظم اليهود عن التشبيه إلى التعطيل، وتحول معتقد النصارى في الابن والأب إلى أنه من الأمور المعنوية لا الحسية، فسبحان مقلب القلوب. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة، الفتوى رقم: 3920.
وما قيل في الآية، يمكن أن يقال نحوه في الحديث الذي أشار إليه السائل، وهو حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا، وفيه: حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله: بر، أو فاجر، وغبرات أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله. فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد. رواه البخاري ومسلم. وهذا كما جاء في السؤال الذي أجاب عنه شيخ الإسلام، ونقلناه سابقا.
ويحتمل أنه يكون المراد باليهود في الحديث، هو من كان يعتقد منهم هذا الاعتقاد في عزير، ويكون جواب من عداهم من اليهود بذكر معبودهم الذي أشركوه مع الله تعالى كأحبارهم وكبارئهم.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قوله: "كنا نعبد عزير ابن الله" هذا فيه إشكال؛ لأن المتصف بذلك بعض اليهود، وأكثرهم ينكرون ذلك! ويمكن أن يجاب بأن: خصوص هذا الخطاب لمن كان متصفا بذلك، ومن عداهم يكون جوابهم ذكر من كفروا به. كما وقع في النصارى، فإن منهم من أجاب بالمسيح ابن الله، مع أن فيهم من كان بزعمه يعبد الله وحده، وهم الاتحادية الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم. اهـ.
ثم إننا ننبه على أن الملل والمعبودات المذكورة في حديث أبي سعيد، ليس هي كل ما وجد في أنواع الشرك بالبشر على الأرض، فمن الناس من يعتقد البنوة في غير عزير والمسيح، كما يعتقد البوذيون في بوذا، وانظر الفتوى رقم: 34579. بل إن من الناس من يعتقد أن الله تجلى في متبوعه الذي يشرك به, فالحديث إما أن يكون فيه ذكر أمثلة يقاس عليها، ويعرف من خلالها كيف يعامل الناس في المحشر، وإما أن يكون المذكور فيه إنما هو أصول الأمم والملل الأكثر عددا من الأتباع.
والله أعلم.