الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ {الأحزاب: 59}، وقوله سبحانه: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ {النور: 31}.
لا يمكن أن يستدل به على احتقار شأن المرأة، لكون الخطاب لم يأت إليها مباشرة، وهذا ظاهر جلي؛ إذ كيف يدل القرآن على احتقار شأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي شرفهن، وأعلى قدرهن في أول السورة نفسها، وأنزلهن منزلة أمهات المؤمنين، فقال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ {الأحزاب: 6}.
وقد جمعت الآية محل السؤال بينهن وبين بنات النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهنَّ من هنَّ منزلة وشرفًا ـ وبين سائر نساء المؤمنين، فكيف يفهم منها تحقير شأن المرأة؟ ثم إن هذه الآية قد سبقها في السورة نفسها خطاب مباشر لنساء النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا {الأحزاب: 55}، وقبلها قوله: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا * إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا {الأحزاب: 32ـ 35}.
وحسبنا هذه الآية الأخيرة التي قرنت رجال هذه الأمة بنسائها، ونوهت بذكر النساء، فعن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت هذه الآية: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.. الآية. رواه الترمذي، وحسنه، وصححه الألباني.
وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه يومئذ إلا ونداؤه على المنبر قالت: وأنا أسرّح شعري، فلففت شعري، ثم خرجت إلى حجرة من حجر بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد، فإذا هو يقول عند المنبر: يا أيها الناس، إن الله يقول في كتابه: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.. إلى آخر الآية، أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا. رواه أحمد، والترمذي، وصححه الألباني.
وأما آية سورة النور، فيكفي أن الأمر جاء قبلها في حق الرجال على النحو ذاته، فقال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ {النور: 30}.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر الرجال بغض البصر، وحفظ الفرج، كما جاء في حق النساء سواء بسواء.
وأما آية سورة طه، فلا إشكال فيها؛ لأن السياق كله كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، بيانًا لبعض ما يأمره به ربه سبحانه، قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى * وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى {طه: 130ـ133}.
ولكن الشأن كما أشارت إليه السائلة، هو ما تفيده هذه الصياغة من التأكيد على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ووجوب اتباعه، وامتثال أمره، ولزوم التواصي بين الزوجين بتقوى الله، وإنقاذ أنفسهم من النار، ونحو ذلك، قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: ذكر الأهل هنا مقابل لذكر الأزواج في قوله: إلى ما متعنا به أزواجًا منهم ـ فإن من أهل الرجل أزواجه، أي: متعتك ومتعة أهلك الصلاة، فلا تلفتوا إلى زخارف الدنيا، وأهل الرجل يكونون أمثل من ينتمون إليه، ومن آثار العمل بهذه الآية في السنة ما في صحيح البخاري: أن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بلغها أن سبيًا جيء به إلى النبيء صلى الله عليه وسلم، فأتت تشتكي إليه ما تلقى من الرحى تسأله خادمًا من السبي، فلم تجده، فأخبرت عائشة بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءها النبيء صلى الله عليه وسلم وقد أخذت وعليّ مضجعهما، فجلس في جانب الفراش، وقال لها، ولعلي: ألا أخبركما بخير لكما مما سألتما، تسبحان وتحمدان وتكبران دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، فذلك خير لكما من خادم... والمقصود من هذا الخطاب ابتداء هو النبيء صلى الله عليه وسلم، ويشمل أهله، والمؤمنين؛ لأن المعلل به هذه الجملة مشترك في حكمه جميع المسلمين. اهـ.
وقال الرازي في قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا {مريم: 54ـ 55}، قيل: كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح، والعبادة؛ ليجعلهم قدوة لمن سواهم، كما قال تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين {الشعراء: 214}، وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها {طه: 132}، قوا أنفسكم وأهليكم نارا {التحريم: 6}. اهـ.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء. رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم، والألباني.
وراجعي للفائدة الفتوى رقم: 70904.
والله أعلم.