السؤال
جاء في صحيح مسلم، في كتاب الإمارة "باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، وترك قتالهم ما صلوا، ونحو ذلك" وذلك لحديث: "إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا"، ثم قال -أعني مسلمًا- شارحًا: "أي: من كره بقلبه، وأنكر بقلبه". هذا الشرح متناقض مع عنوان الباب.
هل يكون الإنكار بالقلب، أم باللسان؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد قال الإمام مسلم في صحيحه: حدثني أبو غسان المسمعي، ومحمد بن بشار جميعًا، عن معاذ، واللفظ لأبي غسان، حدثنا معاذ -وهو ابن هشام الدستوائي- حدثني أبي، عن قتادة، حدثنا الحسن، عن ضبة بن محصن العنزي، عن أم سلمة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع»، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلوا»، أي: من كره بقلبه، وأنكر بقلبه. انتهى.
وهذا التفسير، أو الشرح الأخير ليس من كلام الإمام مسلم -رحمه الله- وإنما هو ناقل، وقائل هذه العبارة: "أي: من كره بقلبه، وأنكر بقلبه" هو قتادة راويه عن الحسن، وقد جاء التصريح بذلك في رواية أبي داود في سننه، حيث رواه عن شيخه ابن بشار، حدثنا معاذ بن هشام به، وفيه: قال قتادة: يعني: من أنكر بقلبه، ومن كره بقلبه.
وهذه العبارة بالفعل محل إشكال، وقد روى أبو داود هذا الحديث قبل ذلك من رواية هشام بن حسان، عن الحسن به، بلفظ: فمن أنكر بلسانه، فقد برئ. وفي رواية للبيهقي: فمن أنكر، فقد برئ، ومن كره بقلبه، فقد سلم. قال الحسن: فمن أنكر بلسانه، فقد برئ، وقد ذهب زمان هذه، ومن كره بقلبه، فقد جاء زمان هذه.
فظهر بهذا أن الكره يكون بالقلب، والإنكار يكون باللسان، في ما يناسبه من الأحوال.
وعلى ذلك جرى كثير من الشراح، وصرح بعضهم بخطأ تفسير قتادة، قال المُظْهِري في شرح المصابيح: "فمن أنكر فقد برئ"؛ أي: فمن أنكر أفعالهم وأقوالهم القبيحة بلسانِهِ، "فقد برئ" من الإثم، ومن لم يقدر أن ينكرها بلسانه، وكرهها بقلبه، فقد سلم من الإثم أيضًا، ولكن "مَنْ رضيَ وتابَع"؛ يعني: ليس على المُنْكِرِ، والكَاره إثمٌ، ولكنَّ الإثم على من رضيَ، وتابَعَ أفعالهم، وأقوالهم القبيحة. قوله: "مَنْ كَرِهَ بقلبهِ، ومَن أَنْكَرَ بقلْبهِ" هذا التفسير غير مستقيم؛ لأن الإنكار يكون باللسان، والكراهية تكون بالقلب، ولو كان كلاهما بالقلب لكانا مكررين؛ لأنه لا فرقَ بينهما بالنسبة إلى القلب، وقد جاء هذا الحديث في رواية أخرى، وفي تلك الرواية: "مَنْ أنكَرَ بلسانِهِ فقد بَرِئَ، ومَنْ كَرِهَ بقلبه فقد سَلِمَ". اهـ.
وتعقبه الطيبي في شرح المشكاة، وردَّ تعليله لتفسير قتادة، فقال: هذا التعليل غير مستقيم، وأول شيء يدفعه ما في الحديث من قوله: (تنكرون) لأن هذا الإنكار ليس إلا بالقلب؛ لوقوعه قسيمًا لـ (تعرفون)، ومعناه على ما قال الشيخ التوربشتي، والقاضي: أي: ترون منهم من حسن السيرة ما تعرفون، وترون من سوء السريرة ما تنكرون، أي: تجهلونه؛ فإن المعروف ما يعرف بالشرع حسنه، والمنكر عكسه؛ ولأن قوله: (فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم) تفصيل لـ (تنكرون)، بشهادة الفاء في (فمن أنكر)، ولن يكون المفصل مخالفًا للمجمل، ومعناه فمن أنكر ما لا يعرف حسنه في الشرع، فقد برئ من النفاق، ومن لم ينكره حق الإنكار، بل كرهه بقلبه، فقد سلم، ولا بد لمن أنكره بقلبه حق الإنكار، أن يظهره بالمكافحة بلسانه، بل يجاهده بيده، وجميع جوارحه. وإذا قيد الإنكار بقلبه، أفاد هذا المعنى، وإذا خص بلسانه لم يفده، ويدل على أن الإنكار إذا لم يكن كما ينبغي سمي بالكراهة، قول الشيخ التوربشتي: ومن كره ذلك بقلبه، ومنعه الضعف عن إظهار ما يضمر من النكر، فقد سلم. اهـ.
ووجَّه القاري في المرقاة تفسير قتادة فقال: يوجه بأن الإنكار اللساني لمَّا كان متفرعًا عن الإنكار القلبي، صح نسبته إليه، وأيضًا فيه إشارة إلى أن من أنكر بلسانه بدون إنكار جنانه، لم يبرأ من عصيانه، فالتقدير: من أنكر إنكارًا متلبسًا بقلبه، وفي بعض نسخ المصابيح: "يعني من كره بقلبه، وأنكر بلسانه" وهو ظاهر كما لا يخفى، هذا محمل الكلام في هذا المقام. اهـ.
ثم ذكر تعقب الطيبي للمظهري، وتعقب هو الطيبي موضحًا مراد المظهري، فراجع ذلك -إن شئت- في المرقاة.
والمقصود أن هذا التفسير من قتادة محل نظر، وله محامل يمكن تمريره بها.
وعلى أية حال؛ فالمراد أن إنكار القلب وكرهه للمنكر، مطلوب على أية حال، ويطلب معه إنكار اللسان، إذا لم يخش فتنة؛ ولذلك كتب الإمام أحمد في جواب مسألة في النهي عن المنكر: يغير ذلك إذا لم يخف، فإن خاف أنكر بقلبه، وأرجو أن يسلم على إنكاره. رواه الخلال في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
والله أعلم.