الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية بخصوص نفي الحد عن الله تعالى ووصفه بغير المحدود يمكنك أن تراجع في ذلك الفتوى رقم: 234334.
ووصفه تعالى بغير المرئي، لا يصح إطلاقه دون قيد، فرؤية تعالى وإن كانت لا تقع في الدنيا، إلا أنها غير مستحيلة عقلا، وهي حاصلة للمؤمنين في الآخرة، كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {القيامة:22، 23}.
وراجع في ذلك الفتويين رقم: 2426، ورقم: 141178.
ولكن رؤيته سبحانه لا تعني إدراكه أي الإحاطة به تبارك وتعالى، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 128832.
أما السؤال الأول عن قوله عز وجل: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ {البقرة: 210}.
فأولا: قوله: يَنْظُرُونَ ـ ليس من النظر، وإنما من الانتظار، يعني: هل ينتظرون، كما قاله عامة المفسرين، وفعل النظر؟ يتعدى بنفسه، ويتعدى بفِي، ويتعدى بـإلى، فالمتعدي بنفسه بمعنى الانتظار، والمتعدي بفي بمعنى التفكر، وأما الذي بمعنى الرؤية ونظر العين فيتعدى بإلى.
وثانيا: قوله: في ظلل ـ ليس معنى: في ـ هنا الظرفية، التي تدل على الإحاطة، تعالى الله عز وجل عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته، وإنما هي للمصاحبة بمعنى مع، أو للفوقية بمعنى على، قال الشيخ ابن عثيمين في تفسيره: في ـ معناها مع يعني يأتي مصاحباً لهذه الظلل، وإنما أخرجناها عن الأصل الذي هو الظرفية، لأنا لو أخذناها على أنها للظرفية صارت هذه الظلل محيطة بالله عزّ وجلّ، والله أعظم وأجلّ من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، ونظير ذلك أن نقول: جاء فلان في الجماعة الفلانية، أي معهم، وإن كان هذا التنظير ليس من كل وجه، لأن فلاناً يمكن أن تحيط به الجماعة، ولكن الله لا يمكن أن يحيط به الظلل، وهذا الغمام يأتي مقدمة بين يدي مجيء الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: ويوم تشقق السماء بالغمام {الفرقان: 25} فالسماء تشقق ـ لا تنشق ـ كأنها تنبعث من كل جانب. اهـ.
وقال في شرح الواسطية: معنى: يَنْظُرُونَ هنا: ينتظرون، لأنها لم تتعد بإلى، فلو تعدت بإلى لكان معناها النظر بالعين غالباً، أما إذا تعدت بنفسها، فهي بمعنى: ينتظرون. أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وذلك يوم القيامة: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ ـ وفِي: هنا بمعنى مع، فهي للمصاحبة، وليس للظرفية قطعاً، لأنها لو كانت للظرفية، لكانت الظلل محيطة بالله، ومعلوم أن الله تعالى واسع عليم، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته، فـ: فِي ظُلَلٍ ـ أي: مع الظلل، فإن الله عند نزوله جل وعلا للفصل بين عباده: تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ـ غمام أبيض، ظلل عظيمة، لمجيء الله تبارك وتعالى. اهـ.
وثالثا: معنى الآية كما قال ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى مهددا للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ـ يعني يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كل عامل بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولهذا قال تعالى: وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور ـ كما قال الله تعالى: كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ـ وجاء ربك والملك صفا صفا ـ وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى {الفجر: 21ـ 23} وقال: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك {الأنعام: 158}. اهـ.
وهذا ـ بحمد الله ـ واضح ليس فيه إشكال، ومن العجيب أن ينقل هذا المستشكل من تفسير القرطبي عبارة: وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: هذا من المكتوم الذي لا يفسر ـ ويغفل بقية كلام القرطبي، ونصه: وقد سكت بعضهم عن تأويلها، وتأولها بعضهم كما ذكرنا. اهـ.
وهذا الذي تقدم ذكره عند القرطبي أعرض عنه المستشكل صفحا! ولفظه: قيل: ليس الكلام على ظاهره في حقه سبحانه، وإنما المعنى: يأتيهم أمر الله وحكمه، وقيل: أي بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل، مثل: فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ـ أي بخذلانه إياهم، هذا قول الزجاج، والأول قول الأخفش سعيد، وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعا إلى الجزاء، فسمى الجزاء إتيانا كما سمى التخويف والتعذيب في قصة نمروذ إتيانا فقال: فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ـ وقال في قصة النضير: فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب. اهـ.
فأعرض المستشكل عن هذا كله وقال: لماذا عجز ابن عباس وهرب من هذا النص الخطير بحجة أنه كلام مكتوم لا تفسير له!!! والحقيقة أن الهوى يعمي ويصم، فلا ابن عباس عجز وهرب، ولا غيره من أهل العلم جهل وسكت، أما ما روي عن ابن عباس فمعناه أن كيفية إتيان الله تعالى وكنه ذلك لا نعلمه ولا نفسره، وهذا هو الواجب في أمور الغيب بصفة عامة، وفي الحديث عن كيفية صفات الله عز وجل وأفعاله بصفة خاصة: ألا نخوض فيها بآرائنا، بل نكل علمها إلى الله تعالى، قال السعدي: وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، المثبتين للصفات الاختيارية، كالاستواء، والنزول، والمجيء، ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى، عن نفسه، أو أخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته، من غير تشبيه ولا تحريف، خلافا للمعطلة على اختلاف أنواعهم. اهـ.
ثم إنه من العجب العجاب أن يأتي هذا المستشكل بهذه الآية على معنى التجسد فيقول: ألا نفهم منه أن الله في الإسلام يتجسد؟!! فأين معنى الآية ـ على ما سبق إيضاحه ـ من معنى التجسد؟! قال المناوي في التوقيف على مهمات التعاريف: التجسد: كل روح ظهر في جسم ناري أو نوري. اهـ.
والأمر يزداد غرابة إذا اعتبرنا معنى التجسد الإلهي في المفهوم النصراني، الذي يوازي عقيدة الحلول والاتحاد الباطلة: فالله تعالى وتقدس تنازل وحل في جسد إنساني، فاتحد بطبيعتنا، وظهر بيننا على الأرض، هكذا يقول علماء النصارى!!! قال الدكتور سعود الخلف في كتاب دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية: المراد بالابن عندهم كلمة الله المتجسدة، وهو المسيح عليه السلام. اهـ.
وقال أيضا: الاتحاد لدى النصارى المراد به هو: أن الله تبارك وتعالى اتخذ جسد المسيح له صورة، وحل بين الناس بصورة إنسان هو المسيح، تعالى الله عما يقولون. اهـ.
وبما سبق يظهر السخف والتزييف الساذج في قول هذا المستشكل: أم أن القرآن كان يسرق صفات المسيح وأعماله وينسبها لربه...!!!.
وأما السؤال الثاني: فقد أجاب عنه أهل العلم، ونبهوا للخلاف الحاصل فيمن أقيم عليهم حد القذف في قصة الإفك، وهل كان فيهم ابن سلول رأس المنافقين أم لا؟ وقد فصَّل في ذلك القرطبي في تفسير سورة النور، ثم قال: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحد لعبد الله بن أبي، روى أبو داود عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش... قال علماؤنا: وإنما لم يحد عبد الله بن أبي، لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما، فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه، مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف، كما قال الله تعالى: فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ـ وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود: إنها كفارة لمن أقيمت عليه، كما في حديث عبادة بن الصامت، ويحتمل أن يقال: إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه، كما في صحيح مسلم. اهـ.
وقال ابن القيم في زاد المعاد: لم يحد الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، فقيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلا لذلك، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، فيكفيه ذلك عن الحد، وقيل: بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه، وقيل: الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو ببينة، وهو لم يقر بالقذف، ولا شهد به عليه أحد، فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه، ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين، وقيل: حد القذف حق الآدمي لا يستوفى إلا بمطالبته، وإن قيل: إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف، وعائشة لم تطالب به ابن أبي، وقيل: بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا، وهي تأليف قومه، وعدم تنفيرهم عن الإسلام، فإنه كان مطاعا فيهم رئيسا عليهم، فلم تؤمن إثارة الفتنة في حده، ولعله ترك لهذه الوجوه كلها، فجلد مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيرا لهم وتكفيرا، وترك عبد الله بن أبي، إذا فليس هو من أهل ذاك. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتويين رقم: 317146، ورقم: 267592.
وأما السؤال الثالث: فيتبين جوابه من معرفة معنى الاعتزال المذكور في الآية، ومعنى المباشرة المذكورة في الحديث، فالاعتزال معناه ترك الجماع في الفرج، وأما المباشرة فمعناها الاستمتاع بها في غيرالفرج، قال السعدي في تفسيره: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ـ أي: مكان الحيض، وهو الوطء في الفرج خاصة، فهذا هو المحرم إجماعا، وتخصيص الاعتزال في المحيض يدل على أن مباشرة الحائض وملامستها، في غير الوطء في الفرج جائز، لكن قوله: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ـ يدل على أن المباشرة فيما قرب من الفرج، وذلك فيما بين السرة والركبة، ينبغي تركه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأته وهي حائض، أمرها أن تتزر، فيباشرها. اهـ.
وقال ابن الملقن في شرح صحيح البخاري: إنما ذكرت المباشرة هنا لتدل.. على طهارة بدن الحائض ولا يجتنب منها إلا موضع الدم، وقال الداودي: يريد أنها تشد إزارها في فور حيضتها. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتويين رقم: 5999، ورقم: 140322.
والله أعلم.