الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما إثبات الخلاف فهو حاصل ليس في القطط فحسب، بل وفي كل حيوان غير مأكول اللحم، كالحمير والبغال! فأكثر أهل العلم وإن كانوا على القول بنجاسة ذلك، إلا أن الخلاف حاصل! وقد جنح البخاري في صحيحه إلى القول بعدم نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، والاقتصار على نجاسة بول الآدمي، فقال في كتاب الطهارة من صحيحه: باب ما جاء في غسل البول، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب القبر: كان لا يستتر من بوله ـ ولم يذكر سوى بول الناس. اهـ.
يشير إلى نجاسة بول الآدمي ـ وهذا محل إجماع ـ بخلاف ما عداه من الأبوال، قال ابن بطال في شرحه: أجمع الفقهاء على نجاسة البول والتنزه عنه، وقول البخاري: ولم يذكر سوى بول الناس ـ فإنه أراد أن يبين أن معنى روايته في هذا الباب: أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ـ أن المراد بول الناس لا بول سائر الحيوان، لأنه قد روى الحديث في هذا الباب قبل هذا وغيره: لا يستتر من بوله ـ فلا تعلق في حديث هذا الباب لمن احتج به في نجاسة بول سائر الحيوان. اهـ.
وقال أيضا: واختلف الفقهاء في إزالة النجاسة من الأبدان والثياب، فقال مالك: إزالتها ليست بفرض، وقال بعض أصحابه: إزالتها فرض، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ظاهر إيراد البخاري حديث العرنيين يشعر باختياره الطهارة، ويدل على ذلك قوله في حديث صاحب القبر: ولم يذكر سوى بول الناس ـ وإلى ذلك ذهب الشعبي وابن علية وداود وغيرهم، وهو يرد على من نقل الإجماع على نجاسة بول غير المأكول مطلقا. اهـ.
فظهر بذلك أن الشعبي وابن علية وداود، لا يقولون بنجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، وإلى ذلك مال البخاري في صحيحه وقال الشوكاني في نيل الأوطار: فالذي يتحتم القول به في الأبوال والأزبال هو الاقتصار على نجاسة بول الآدمي وزبله والروثة، وقد نقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير، ولكنه زاد ابن خزيمة في روايته: إنها ركس إنها روثة حمار ـ وأما سائر الحيوانات التي لا يؤكل لحمها، فإن وجدت في بول بعضها أو زبله ما يقتضي إلحاقه بالمنصوص عليه طهارة أو نجاسة ألحقته، وإن لم تجد فالمتوجه البقاء على الأصل والبراءة؛ كما عرفت. اهـ.
ومما استدل به القائلون بعدم النجاسة، قول ابن عمر رضي الله عنهما: كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك. رواه البخاري.
وقال البخاري في صحيحه: صَلَّى أَبُو مُوسَى فِي دَارِ البَرِيدِ وَالسِّرْقِينِ، وَالبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: هَاهُنَا وَثَمَّ سَوَاءٌ. اهـ.
قال ابن الملقن في التوضيح: اعلم أن البخاري قاس بول غير المأكول على المأكول فيما ترجم له، واستشهد بفعل أبي موسى... ودار البريد: الموضع الذي ينزل فيه البريد، ومواضعها يكون فيه روث الدواب غالبا، والسرقين: الزبل.. والبرية: الصحراء، والجمع البراري. اهـ.
وبخصوص القطط: فهناك خلاف آخر بين الجمهور القائلين بنجاسة بول وروث ما لا يؤكل لحمه، فالفتوى عند الحنفية على العفو عن بول الهرة في الثوب ونحوه من غير المائعات، قال الطهطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح: قال الشيخ زين في قاعدة المشقة تجلب التيسير من الأشباه: الفتوى على أن بول الهرة عفو في غير أواني الماء، وهو قول الفقيه أبي جعفر، قال في الفتح: وهو حسن لعادة تخمير الأواني فلا ضرورة في ذلك، بخلاف الثياب، وهو مروي عن محمد فإنه قال في السنور يعتاد البول على الفراش: بوله طاهر للضرورة وعموم البلوى، قال في الفتح: والحق صحة هذه الرواية. اهـ.
جاء في الدر المختار للحصكفي: وَفِي الأَشْبَاهِ: بَوْلُ السِّنَّوْرِ فِي غَيْرِ أَوَانِي الْمَاءِ عَفْوٌ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: ذهب الحنفية إلى أنه يعفى في النجاسة المغلظة عن أمور: فيعفى قدر الدرهم وزنا في النجاسة الكثيفة وقدر بعشرين قيراطا، وفي النجاسة الرقيقة أو المائعة بقدر الدرهم مساحة، وقدر بمقعر الكف داخل مفاصل الأصابع، والمقصود بعفو الشارع عنها: العفو عن فساد الصلاة، وإلا فكراهة التحريم باقية إجماعا إن بلغت الدرهم، وتنزيها إن لم تبلغ، ويعفى عن بول الهرة والفأرة وخرئهما فيما تظهر فيه حالة الضرورة... ويعفى عن بول الهرة إذا وقع على نحو ثوب لظهور الضرورة، بخلاف ما إذا أصاب خرؤها أو بولها شيئا غير ذلك، فإنه لا يعفى عنه. اهـ.
وعند بعض المالكية لا يحرم أكل لحم القط، وبالتالي فبوله ليس بنجس عندهم، قال الحطاب في شرح مختصر خليل: نقل البرزلي عن نوازل ابن الحاج أن بول الهر والفأر والطعام الذي يقع فيه ذلك: مكروه كلحمه، وأما على المشهور من تحريمها فبولها نجس. اهـ.
والمقصود مما سبق هو إثبات الخلاف في بول وزبل كل ما لا يؤكل لحمه، ولا سيما ما يشق التحرز منه كالهرة، وأما الترجيح في المسألة، فأمر آخر.
وعلى أية حال، فلا بد في حال السائلة من استصحاب أصل الطهارة، فلا تنتقل عنها إلا بدليل قائم أو إخبار صادق، قال الكشميري في فيض الباري: الشريعة لا تحكم بالنجاسة إلا بالمشاهدة الجزئية أو الإخبار، فإذا لم يكن هناك إخبار ولا مشاهدة جزئية، فإنه لا تحكم بالنجاسة بمجرد تطرق الأوهام وتوسوس الصدور. اهـ.
وقال أيضا: الحكم بالنجاسة لا يمكن عندنا إلا بمشاهدة جزئية أو إخبار صحيح، وأما الظنون: فلا تغني عن الحق شيئا. اهـ.
والله أعلم.