السؤال
هل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مُدح، وأعطى على المديح؟ لأني قرأت هذا في أحد الكتب القديمة غير الموثوقة، وهو كتاب: "المستظرف" في قصة مروية عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- والشعراء، ولا أعلم صحتها أيضًا؛ لذا أريد الاستفسار عن هذا؛ لأني أحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه الشريف: "إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب"، والحديث رواه مسلم في صحيحه. وجزاكم الله خيرًا، وأحسن الله إليكم.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فما جاء في كتاب (المستطرف) ليس له إسناد قائم، وإنما قال الأبشيهي: روى ابن الكلبي قال: لما أفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز، وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد على الخلفاء من قبله، فأقاموا ببابه أيامًا لا يؤذن لهم في الدخول، حتى قدم عدي بن أرطأة عليه، وكان منه بمكانة، فتعرض له جرير ... فلما دخل على عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- قال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك، وألسنتهم مسمومة، وسهامهم صائبة، فقال عمر -رضي الله عنه-: مالي وللشعراء؟! فقال: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح فأعطى، وفيه أسوة لكل مسلم، قال: صدقت، فمن بالباب منهم؟ ... وذكر قصة. اهـ.
وابن الكلبي لا يؤخذ عنه الحديث، قال الذهبي في الميزان: قال أحمد بن حنبل: إنما كان صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن أحدًا يحدث عنه. وقال الدار قطني، وغيره: متروك. وقال ابن عساكر: رافضي، ليس بثقة. اهـ.
وزاد ابن حجر في اللسان: اتهمه الأصمعي. وذكره العقيلي، وَابن الجارود، وَابن السكن، وَغيرهم في الضعفاء. قال ابن مَعِين: غير ثقة، وليس عن مثله يروى الحديث. اهـ.
وأما إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم للشعراء على النحو المعروف عن الخلفاء والملوك والسلاطين، فلا نعرف فيه شيئًا، وأشهر ما يمكن أن يستدل به على أصل إعطاء الشعراء: قصة كعب بن زهير أنه لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنشده قصيدته المشهورة: (بانت سعاد)، كساه النبي صلى الله عليه وسلم بردة له، كما سبق أن أشرنا إليه في الفتوى رقم: 40007. وذكرنا القصة في الفتوى رقم: 63670.
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه بردته حين أنشده القصيدة، وقد نظم ذلك الصرصري في بعض مدائحه، وهكذا ذكر ذلك الحافظ أبو الحسن بن الأثير في الغابة، قال: وهي البردة التي عند الخلفاء. قلت: وهذا من الأمور المشهورة جدًّا، ولكن لم أر ذلك في شيء من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه. اهـ. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 234301.
وإذا كان لا بد من ذكر دليل على الموقف النبوي من إعطاء الشعراء إجمالًا، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشيطان - لأن يمتلئ جوف رجل قيحًا، خير له من أن يمتلئ شعرًا.
قال القرطبي في المفهم: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتَّخذ الشعر طريقًا للكسب، فيفرط في المدح إذا أعطي، وفي الهجو والذمِّ إذا مُنع، فيؤذي الناس في أموالهم، وأعراضهم. ولا خلاف في أن كل من كان على مثل هذه الحالة، فكل ما يكتسبه بالشعر حرام، وكل ما يقوله حرام عليه من ذلك، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه. فإن لم يمكن ذلك: فمن خاف من لسانه تعيَّن عليه أن يداريه ما استطاع، ويدافعه بما أمكن، ولا يحل أن يعطي شيئًا ابتداء؛ لأنَّ ذلك عون على المعصية، فإن لم يجد من ذلك بدًّا، أعطاه بِنِيَّة وقاية العرض، فما وقى به المرء عرضَه، كُتب له به صدقة. اهـ.
وراجع في معنى حديث: إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب. الفتوى رقم: 97449.
والله أعلم.