السؤال
أنا صاحب السؤال رقم: 2673293
الآن العبرة بحال القلب، لا بحال الشخص، ولكن كيف يكون ذلك، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) فالمستكثر من المال لا ينطبق عليه ذلك، وخصوصا الأحاديث التي وردت في كتاب شرح رياض الصالحين لابن عثيمين، في باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها، وهي التالي:
قال: يتبع الميت ثلاثةٌ: أهلهُ ومالهُ وعملهُ: فيرجع اثنان، ويبقى واحد؛ يرجعُ أهلهُ ومالهُ، ويبقى عملهُ. متفق عليه.
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل.
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. رواه البخاري.
قالوا في شرح هذا الحديث معناه: لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريبُ الذي يريد الذهاب إلى أهله. وبالله التوفيق.
كأنك عابر سبيل: تريد أن تأخذ (ما تحتاجه) في سفرك وأنت ماش.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه، وعالماً ومتعلماً. رواهُ الترمذي وقال: حديث حسن.
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا الضيعة، فترغبوا في الدنيا. رواهُ الترمذي وقال: حديث حسن.
وعن أبي عمرو -ويقال أبو عبد الله، ويقال أبو ليلى- عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنهُ، وثوب يُواري عورتهُ، وجلف الخُبز، والماء. رواهُ الترمذي وقال: حديثٌ صحيحٌ.
كما في هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي في المال، يكثر المال عند الناس فينسوا به الآخرة، ولهذا نهي عن اتخاذ الضياع، الضياع يعني الحدائق والبساتين، فإن الإنسان يلهو بها عما هو أهم منها من أمور الآخرة.
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسل على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاءً! فقال: ((مالي وللدنيا)) ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثُم راح وتركه)) رواه الترمذي وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ.
31/487- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام)) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح.
33/489- وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قُمتُ على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكينُ، وأصحابُ الجد محبُوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار)) متفق عليه.
34/490- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أصدقُ كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيءٍ ما خَلا الله بَاطِلُ)) متفق عليه.
ثم إن الزهد على مراتب ثلاث كما قلتم:
الأولى: ترك الحرام والشبهة.
الثانية: ترك الفضول من الحلال.
الثالثة: ترك ما يشغل عن الله تعالى.
ترك الفضول من الحلال. أليس هو ترك الزائد من المال عن قدر الحاجة؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكل ما ذكرته ليس مشكلا بحمد الله، فإن الغالب على الناس أن المال يفتنهم ويصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، فيشتغلون به عن مصالح آخرتهم. فهؤلاء المال في حقهم مضرة، وأما من كان المال في يده ولم يكن في قلبه، فهذا الذي يقال فيه: نعم المال الصالح للعبد الصالح، فيتقي بماله ربه، ويصل به رحمه، ولا ينافي وجود المال في يده أن يكون في الدنيا كأنه غريب، أو عابر سبيل، وذلك لأنه وإن كان مالكا لحظ من الدنيا، لكنه غير متعلق به، ولا راكن إليه، بل قلبه متعلق بالله وحده، عالم أن ما بيده من الخير إنما هو نعمة الله أودعها إياه؛ ليتقيه فيها، وينفع بها عباده، وأنه إن شاء سلبها منه، وإذا سلبت نعمته فهو راض بحكم الله، مستسلم لأمره، ليس للدنيا سلطان على قلبه، فهذا بأحسن المنازل وأعلاها درجة عند الله. وهذا كما كان سليمان النبي عليه السلام قد أوتي فشكر، وكما كان جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم- فلا شك في أن هؤلاء كانوا يعيشون في الدنيا كأنهم غرباء أو عابرو سبيل، ولم يكن للدنيا سلطان على قلوبهم مع ما كانوا فيه من النعمة وبسطة العيش، ومن ثم كان الغني الشاكر أرفع درجة من الفقير الصابر عند جماعات، وكان أفضلهما أتقاهما لله، كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ودونك هذا الكلام النفيس للإمام ابن القيم -رحمه الله- فإذا تدبرته وعقلته، زال عنك الإشكال في هذا الباب.
قال -طيب الله ثراه-: وكما أن الرغبة في الدنيا أصل المعاصي الظاهرة، فهي أصل معاصي القلب من التسخط والحسد، والكبر والفخر والخيلاء والتكاثر، وهذا كله من امتلاء القلب بها لا من كونها في اليد، وامتلاء القلب بها ينافي الشكر، ورأس الشكر تفريغ القلب منها، وامتداد المال كامتداد العمر والجاه، فخيركم في الدنيا من طال عمره وحسن عمله، فهكذا من امتد ماله وكثر به خيره فنعم المرء، وماله وجاهه إما أن يرفعه درجات، وإما أن يضعه درجات.
وسر المسألة أن طريق الفقر والتقلل طريق سلامة مع الصبر، وطريق الغنى والسعة في الغالب طريق عطب، فإن اتقى الله في ماله، ووصل به رحمه، وأخرج منه حق الله -وليس مقصورا على الزكاة، بل من حقه إشباع الجائع، وكسوة العاري، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج والمضطر- فطريقه طريق غنيمة، وهي فوق السلامة، فمثل صاحب الفقر كمثل مريض قد حبس بمرضه عن أغراضه، فهو يثاب على حسن صبره على حبسه. وأما الغني فخطره عظيم في جمعه وكسبه وصرفه، فإذا سلم كسبه وحسن أخذه من وجهه وصرفه في حقه كان أنفع له، فالفقير كالمتعبد المنقطع عن الناس، والغني المنفق في وجوه الخير كالمعين والمعلم والمجاهد، ولهذا جعله النبي قرين الذي آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، فهو أحد المحسودين اللذين لا ثالث لهما، والجهلة يغبطون المنقطع المتخلي المقصور النفع على نفسه، ويجعلونه أولى بالحسد من المنفق والعالم المعلم. فإن قيل: فأيهما أفضل: من يختار الغنى والتصدق والإنفاق في وجوه البر، أم من يختار الفقر والتقلل ليبعد عن الفتنة ويسلم من الآفة، ويرفه قلبه على الاستعداد للآخرة، فلا يشغله بالدنيا، أم من لا يختار لا هذا ولا ذاك، بل يختار ما اختاره الله له، فلا يعين باختياره واحدا من الأمرين؟
قيل: هذا موضع اختلف فيه حال السلف الصالح، فمنهم من اختار المال للجهاد به والإنفاق، وصرفه في وجوه البر؛ كعبد الرحمن بن عوف وغيره من مياسير الصحابة، وكان قيس بن سعد يقول: اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى، ومنهم من اختار الفقر والتقلل؛ كأبي ذر وجماعة من الصحابة معه، وهؤلاء نظروا الى آفات الدنيا وخشوا الفتنة بها، وأولئك نظروا الى مصالح الإنفاق وثمراته العاجلة والآجلة، والفرقة الثالثة لم تختر شيئا، بل كان اختيارها ما اختاره الله لها. انتهى.
والله أعلم.