السؤال
كنت جالسًا في مكان، وقام شخص بتعيير الآخر بالصلع، واستهزأ به، وسخر منه، وأنا وشخص آخر ضحكنا، فهل علينا إثم في ذلك؟ وهل الذي يضحك من مثل هذا الموقف يبتلى به، أم لا بد من الاستهزاء والنطق باللسان؟ وهل يوجد فرق بين الضاحك والشامت؟ وإذا كنت أتابع أحد مقاطع الفيديو، وضحكت على الموقف، فهل ابتلى بهذا الذي حدث، علمًا أني أضحك للموقف لا استهزاء به؟ وقد أرسل المقطع إلى أصدقائي، وجزاكم الله خيرًا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن السخرية بالمسلم محرمة في الشرع، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ {الحجرات:11}.
وإذا كانت السخرية محرمة، فلا يجوز استماعها، فضلًا عن الضحك منها؛ لما في ذلك من إقرارها، والرضا بها، والضحك قد يكون شماتة أيضًا، لكن إن غلب الضحك على الشخص عند سماعه السخرية دون اختيار منه، فحينئذ لا يؤاخذ، فقد أخرج مسلم في صحيحه، عن الأسود، قال: دخل شباب من قريش على عائشة، وهي بمنى، وهم يضحكون، فقالت: ما يضحككم؟ قالوا: فلان خر على طنب فسطاط، فكادت عنقه، أو عينه أن تذهب، فقالت: لا تضحكوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما من مسلم يشاك شوكة، فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة.
قال عياض في إكمال المعلم: الضحك في مثل هذا غير مستحسن، ولا مباح، إلا أن يكون من غلبة مما طبع عليه البشر. وأما قصدًا، ففيه شماتة بالمسلم، وسخرية بمصابه، والمؤمنون إنما وصفهم الله بالرحمة، والتراحم بينهم، ومن خلقهم الشفقة بعضهم لبعض. اهـ. وقال النووي في شرحه لمسلم: فيه النهي عن الضحك من مثل هذا، إلا أن يحصل غلبة لا يمكن دفعه، وأما تعمده فمذموم؛ لأن فيه إشماتًا بالمسلم، وكسرًا لقلبه. اهـ.
وأما عن عقوبة الشامت -المبينة في الفتوى: 255496- وهل تصيب الضاحك من سماع السخرية بمسلم: فإن كان الضاحك غير مؤاخذ -وفق ما بيناه آنفًا- فلا إشكال أنه لا يعاقب؛ لأنه لم يرتكب إثمًا، وأما حيث كان ضحكه محرمًا، فيخشى أن تلحقه العقوبة.
مع وجوب التنبه إلى قاعدة جليلة في باب الوعيد: وهي أن العقوبة لا يلزم أن تصيب كل من وقع في الذنب المتوعد عليه، بل الوعيد قد يتخلف لمانع، ومن تلك الموانع: التوبة النصوح، والحسنات الماحية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: حيث قدر قيام الموجب للوعيد, فإن الحكم يتخلف عنه لمانع. وموانع لحوق الوعيد متعددة: منها: التوبة, ومنها: الاستغفار, ومنها: الحسنات الماحية للسيئات, ومنها: بلاء الدنيا ومصائبها, ومنها: شفاعة شفيع مطاع، ومنها: رحمة أرحم الراحمين. فإذا عدمت هذه الأسباب كلها, ولن تعدم إلا في حق من عتا وتمرد وشرد على الله شراد البعير على أهله, فهنالك يلحق الوعيد به؛ وذلك أن حقيقة الوعيد: بيان أن هذا العمل سبب في هذا العذاب, فيستفاد من ذلك تحريم الفعل وقبحه. أما أن كل شخص قام به ذلك السبب, يجب وقوع ذلك المسبب به, فهذا باطل قطعًا؛ لتوقف ذلك المسبب على وجود الشرط, وزوال جميع الموانع .اهـ.
وقال شيخ الإسلام أيضًا: لحوق عقوبة الذنب بصاحبه إنما تنال لمن لم يتب، وقد يمحوها الاستغفار، والإحسان، والبلاء، والشفاعة، والرحمة. اهـ.
وقال الإمام ابن القيم -معلقًا على إحدى نصوص الوعيد- في حادي الأرواح: وقال الجمهور: وهذا من الوعيد الذي له حكم أمثاله من نصوص الوعيد التي تدل على أن الفعل مقتض لهذا الحكم، وقد يتخلف عنه لمانع، وقد دل النص، والإجماع على أن التوبة مانعة من لحوق الوعيد، ويمنع من لحوقه أيضًا: الحسنات الماحية، والمصائب المكفرة اهـ. وراجع الفتوى: 75710.
ونعتذر عن الخوض في إجابة سؤالك الآخر، لأننا بيّنّا في خانة إدخال الأسئلة أنه لا يسمح إلا بإرسال سؤال واحد فقط في المساحة المعدة لذلك، وأن الرسالة التي تحوي أكثر من سؤال سيتم الإجابة عن السؤال الأول منها، وإهمال بقية الأسئلة.
والله أعلم.