السؤال
أشار القرآن إلى أن النمل يتحدث بلغتنا نحن البشر، أي: بكلام نفهمه؛ لأن سيدنا سليمان استطاع سماع صوت النمل، وتحدث مع بعضهنّ، وأشار القرآن إلى أن الحيوانات تتحدث مثلنا في قوله تعالى: "أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم"، وقد أشار القرآن إلى أن طريقة التواصل بين النمل هي الكلام، والحقيقة العلمية تقول: إن النمل يتواصل عن طريق المواد الكيميائية، وقرون الاستشعار، والروائح، ولكن القرآن يخبرنا أنها تتحدث فيما بينها كلامًا عاديًّا مثل كلامنا؟
وورد في الآية الثانية أن الدابة التي ستخرج ستكلم الناس، أي أن لديها القدرة على الكلام مثل البشر، فكيف يمكننا التوفيق بين الآيات التي تخبرنا بتحدث الحيوانات، وبين ما تم اكتشافه عن طرق التواصل الكيميائية بين النمل؟
ويعرف علماء اللغة أن اللغة هي سمة خاصة بالإنسان فقط، ولا يستطيع حيوان آخر الكلام غيره، فكيف نوفق بين هذه الأمور؟ وفقكم الله.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا الإشكال يزول بالتفريق بين معنى التخاطب ولغة التفاهم، وبين كلام البشر المعهود، فخصوصية البشر في الكلام المنطوق، على الوجه المعهود.
وأما مجرد الصوت، أو القدرة على التفاهم والتخاطب بأي أسلوب كان، فأمر آخر، لا ينفيه العلم، بل يثبته.
وما حصل في حق نبي الله سليمان، وكذلك ما سيحصل من أمر دابة الأرض في آخر الزمان: ليس جاريًا على السنن المعروفة بين الناس، بل هو من باب المعجزة، وهذا لا يكون إلا بخرق العادة، والخروج عن المألوف المعهود للناس. وإلا فمسألة كلام غير البشر حتى الجمادات جاءت في كثير من الصور، وإنما قبلناها؛ لأنها من باب المعجزة، وذلك كحنين الجذع للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسليم الحجر عليه، وشكاية الناقة له، وغير ذلك.
فأي غرابة تبقى في تفهيم الله تعالى لنبيه سليمان منطق الطير، أو النمل، وتسخير الجبال والطير بالتأويب مع أبيه داود، أو إنطاقه لدابة آخر الزمان!!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الله يلهم الحيوان من الأصوات ما به يعرف بعضها مراد بعض، وقد سمي ذلك منطقًا وقولًا في قول سليمان: {علمنا منطق الطير}، وفي قوله: {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم}، وفي قوله: {يا جبال أوبي معه والطير}. اهـ.
ومع ذلك؛ فقد اختلف المفسرون وغيرهم في حقيقة منطق الطير، وكلام النمل في قصة سليمان، فمنهم من جعل ذلك من باب الاستعارة، أو المجاز المرسل، بل إن منهم من ذهب إلى أن سليمان - عليه السلام - لم يسمع صوتا أصلًا، وإنما فهم ما في نفس النملة إلهامًا من الله تعالى، بل ذهب الكلبي المفسر إلى أن ملكًا أخبره بذلك، وأنه لم يسمع صوتًا!! وتجد تفصيل ذلك في كتب التاريخ، والتفسير، كتفسير الألوسي مثلًا.
ولا حاجة إلى كل هذا، بل هي معجزة خارقة للعادة، قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن: وأما تأويلهم في قوله جل وعزّ للسّماء والأرض: ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت:11]: إنه عبارة عن تكوينه لهما. وقوله لجهنم: هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30] إنه إخبار عن سعتها- فما يحوج إلى التّعسّف، والتماس المخارج بالحيل الضعيفة؟ وما ينفع من وجود ذلك في الآية والآيتين، والمعنى والمعنيين- وسائر ما جاء في كتاب الله عزّ وجلّ من هذا الجنس، وفي حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممتنع عن مثل هذه التأويلات. وما في نطق جهنم، ونطق السماء والأرض من العجب؟ والله تبارك وتعالى ينطق الجلود، والأيدي، والأرجل، ويسخّر الجبال، والطير بالتّسبيح، فقال: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) [ص:19] وقال: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ:10]، أي: سبّحن معه. وقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء: 44] وقال في جهنم: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك:8]، أي: تنقطع غيظًا عليهم، كما تقول: فلان يكاد ينقدّ غيظًا عليك، أي: ينشق. وقال: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12]، وروي في الحديث أنها تقول: (قط قط) أي: حسبي. وهذا سليمان -عليه السلام- يفهم منطق الطّير، وقول النّمل، والنمل من الحُكْل، والحكل ما لا يسمع له صوت ... وهذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تخبره الذّراع المسمومة، ويخبره البعير أنّ أهله يجيعونه، ويدئبونه. في أشباه لهذا كثيرة. اهـ.
والله أعلم.