السؤال
أولًا: أحيِّي القائمين على الموقع، وأسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء.
ثانيًا: عندي إشكال في التوفيق بين الحزن والرضى.
قرأت كثيرًا عن الموضوع، لكن أظن أني لم أستوعب الكلام، غالب تعريف العلماء للرضى بأن لا يوجد ألم في القلب من المصيبة، ويكون وجودها كعدمها كتعريف ابن عثيمين لها. لكن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم -كما أفهم بفهمي العامي- يخالف هذا التعريف، فهو يحزن ويتألم، بل إنه كان يدعو بشدة على قتلة أصحابه، وقد قنت شهرًا كما روي عنه.
ويعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن، إضافة إلى أن الحزن والألم من جبلة الإنسان، وما كان الثواب إلَّا بقدر المصيبة وصبر صاحبها عليها.
فما الجامع بين أقوال العلماء وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وحال يعقوب عليه السلام؟ وكيف يمكن التوفيق بين الحزن والرضى؟
فأنا أريد أن أصل إلى مرتبة الرضى، وقد أجد في نفسي رضىً بمصيبتي مع عدم التأكيد على بلوغي إياها، لكن إن تعلق الأمر بمصائب المسلمين فإني أجد ثقل مصيبتهم في نفسي أشد من مصيبتي في نفسي.
وإن كان الحزن لا يخالف الرضى، بل يمكن التوفيق بينهما؛ فما هي حدوده التي تسمح ببلوغ الرضى؟
وجزاكم الله خيرًا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا تعارض بين الحزن الذي يقع في القلب رحمة بالمخلوق وشفقة عليه، وبين الرضا بقضاء الله وتدبيره، والرضا به سبحانه ربا.
وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، وبكاء يعقوب عليه السلام على فقد يوسف، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم لمقتل أصحابه، وغير ذلك هو من هذا الباب.
فإنه حزن رحمة للمخلوق وشفقة عليه، فوفى مقام الرحمة بالمخلوق حقه، مع توفيته مقام الرضا بالقدر حقه.
يوضح هذا المعنى العلامة ابن القيم -رحمه الله- فيقول: وَسَنَّ لِأُمَّتِهِ الْحَمْدَ وَالِاسْتِرْجَاعَ، وَالرِّضَى عَنِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِدَمْعِ الْعَيْنِ وَحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَرْضَى الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ فِي قَضَائِهِ، وَأَعْظَمَهُمْ لَهُ حَمْدًا، وَبَكَى مَعَ ذَلِكَ يَوْمَ مَوْتِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ رَأْفَةً مِنْهُ، وَرَحْمَةً لِلْوَلَدِ، وَرِقَّةً عَلَيْهِ، وَالْقَلْبُ مُمْتَلِئٌ بِالرِّضَى، عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَشُكْرِهِ، وَاللِّسَانُ مُشْتَغِلٌ بِذِكْرِهِ وَحَمْدِهِ. وَلَمَّا ضَاقَ هَذَا الْمَشْهَدُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ يَوْمَ مَاتَ وَلَدُهُ، جَعَلَ يَضْحَكُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَضْحَكُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؟ قَالَ: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى بِقَضَاءٍ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَرْضَى بِقَضَائِهِ» ) فَأَشْكَلَ هَذَا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالُوا: كَيْفَ يَبْكِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ أَرْضَى الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ، وَيَبْلُغُ الرِّضَى بِهَذَا الْعَارِفِ إِلَى أَنْ يَضْحَكَ.
فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابن تيمية يَقُولُ: هَدْيُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ هَدْيِ هَذَا الْعَارِفِ، فَإِنَّهُ أَعْطَى الْعُبُودِيَّةَ حَقَّهَا، فَاتَّسَعَ قَلْبُهُ لِلرِّضَى عَنِ اللَّهِ، وَلِرَحْمَةِ الْوَلَدِ، وَالرِّقَّةِ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَرَضِيَ عَنْهُ فِي قَضَائِهِ، وَبَكَى رَحْمَةً وَرَأْفَةً، فَحَمَلَتْهُ الرَّأْفَةُ عَلَى الْبُكَاءِ، وَعُبُودِيَّتُهُ لِلَّهِ، وَمَحَبَّتُهُ لَهُ عَلَى الرِّضَى وَالْحَمْدِ.
وَهَذَا الْعَارِفُ ضَاقَ قَلْبُهُ عَنِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَمْ يَتَّسِعْ بَاطِنُهُ لِشُهُودِهِمَا وَالْقِيَامِ بِهِمَا، فَشَغَلَتْهُ عُبُودِيَّةُ الرِّضَى عَنْ عُبُودِيَّةِ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ. انتهى.
وبهذا البيان المتين يتضح لك المقام، وأن وجود الحزن من بعض الجهات لا ينافي الرضا بما قدره الله وقضاه.
وأن الحزن على ما يصيب المسلمين والتألم لهم شيء، والرضا بقضاء الله شيء آخر، وكلاهما من أنواع العبودية التي شرعت للعباد.
والله أعلم.