السؤال
شيوخنا الكرام: لدي استفسار بخصوص هذا الحديث:
أنَّ رَجُلًا قال: يا رسولَ اللهِ، أنبيٌّ كان آدَمُ؟ قال: نَعم، مُعَلَّمٌ مُكَلَّمٌ، قال: كم بينَه وبينَ نوحٍ؟ قال: عَشَرةُ قرونٍ، قال: كم كان بينَ نوحٍ وإبْراهيمَ؟ قال: عَشَرةُ قرونٍ.
أوجدت لدي لفظة "قال: "كم كان بين نوح وإبراهيم؟" قال: ((عشرة قرون))."، شبهة، والشبهة من أوجه عدة:
فأما من العقل، فالعلم الحديث يقول إن عمر البشرية يصل إلى مئات الآلاف من السنين، ونعرف أن إبراهيم هو أقرب إلى أن يكون عاصر الحضارات السومرية والبابلية (لأن بني إسرائيل من نسل ولده إسحاق عليه السلام، ومما وصلنا من أخبار العرب)، ونوح عليه السلام هو أقرب إلى أبينا آدم عليه السلام، والحضارة السومرية لا يصل عمرها إلى عشرة آلاف سنة، ولكن العلم الحديث يخبرنا أن عمر البشرية يصل إلى مئات الآلاف السنين.
وأما من النقل، فنجد آيات من القرآن مثل (وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا) و (الذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) سورة إبراهيم 9، وهذه الآيات توحي لي أن بين نوح عليه السلام وإبراهيم عليه السلام قرونا كبيرة وأجيالا كثيرة.
وجاء في السنة
"......وما أنتُمْ في أهْلِ الشِّرْكِ إلَّا كَالشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ في جِلْدِ الثَّوْرِ الأسْوَدِ، أوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ في جِلْدِ الثَّوْرِ الأحْمَرِ."
في هذا الحديث يخبرنا بالعدد الهائل للأمم التي عاشت قبل الرسول صلوات ربي وسلامه عليه، والحديث المشكل لي يدل بعكس ذلك.
أنا لا أرد الأحاديث الصحيحة على هواي، فهذا من عدم الموضوعية في البحث، ولكن أشكل علي هذا الحديث.
فهل هو صحيح صحة كاملة، أم اختلف فيه بعض أهل العلم، أو هل من تفسير يحل إشكالي؟
أفيدوني جزاكم الله ألف خير.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث صححه الألباني في (السلسلة الصحيحة 3289)، وعزاه للحاكم والطبراني.
وصححه الحاكم على شرط مسلم ولم يتعقبه الذهبي.
وعزاه ابن حجر في الفتاوى الحديثية للطبراني بسند رجاله رجال الصحيح. اهـ. وتبعه الهيثمي فقال: رجاله رجال الصحيح. اهـ.
ورواه ابن حبان في صحيحه مختصرا، وابن منده في كتاب التوحيد وقال: صحيح على رسم مسلم والجماعة إلا البخاري. اهـ.
وكذا قال ابن كثير في البداية والنهاية: على شرط مسلم. اهـ.
وأما إشكال السائل، فجوابه أن العلم الحديث إنما يتعرض لعمر كوكب الأرض، وعمر الحياة عليه، بصفة أساسية. ونحن نعتقد أن ذلك قد سبق خلق آدم بزمان لا نعلم قدره. ولا مانع من كون آدم قد سُبق بمخلوقات أخرى عاشت على الأرض لا نعلمها نحن. قال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف: 51].
ومعناه: ما أشهدتهم خلقها فيحيطون علماً بغيبها، لاختصاص الله بعلم الغيب دون خلقه. كما ذكره الماوردي احتمالا في تفسيره النكت والعيون.
وقوله تعالى: وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ.
قال ابن الجوزي في زاد المسير: ما أشهدت بعضَهم خَلْقَ بعض. اهـ.
وأما زمن هبوط أبينا آدم إلى الأرض، فلا يتعرض له العلم الحديث، بل أكثر أهله لا يؤمنون أصلا بقصة آدم وخلق الله له من طين، وإنما يؤمنون بنظرية التطور. وبالتالي، لا يصح الاعتماد على استنتاجهم في هذا الباب.
وما ذكره السائل من أدلة، قد ذكره بعض أهل العلم، ولكن في باب إبطال تعيين عمر الدنيا، لا في تقدير المدة الزمنية بين الأنبياء: آدم ونوح وإبراهيم.
قال ابن حزم في الفصل في الملل والنحل: وأما اختلاف الناس في التاريخ، فإن اليهود يقولون: للدنيا أربعة آلاف سنة ونيف. والنصارى يقولون: للدنيا خمسة آلاف سنة.
وأما نحن فلا نقطع على عدد معروف عندنا. وأما من ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقل فقد كذب، وقال ما لم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لفظة تصح، بل صح عنه عليه السلام خلافه، بل نقطع على أن للدنيا أمرا لا يعلمه إلا الله عز وجل؛ قال الله تعالى: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم}، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض". هذا عنه -عليه السلام- ثابت، وهو -عليه السلام- لا يقول إلا عين الحق، ولا يسامح بشيء من الباطل.
وهذه نسبة من تدبرها وعرف مقدار أعداد أهل الإسلام ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض، وأنه الأكثر، علم أن للدنيا عددا لا يحصيه إلا الله الخالق تعالى ...
وقد رأيت بخط الأمير أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الناصري -رحمه الله- قال: حدثني محمد بن معاوية القرشي: أنه رأى بالهند بُدًا له اثنان وسبعون ألف سنة. وقد وجد محمود بن سبكتكين بالهند مدينة يؤرخونها بأربعمائة ألف سنة. اهـ.
وعلق عليه محقق الكتاب فقال: البد صنم يعبد في الهند.
وكلام ابن حزم هذا نقله المقريزي في المواعظ والاعتبار، ونقله صاحب تفسير المنار، ثم قال: هذا كلام الأئمة المحققين. اهـ.
والله أعلم.