السؤال
نشكركم على كل مجهوداتكم، وخدمتكم للأمة الإسلامية، ونسأل الله تعالى أن يوفقكم، ويثبتكم.
يخطر ببالي هذا الإشكال دائمًا، وهو حول سنة الاحتفاء، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بالاحتفاء من حين إلى آخر، لكن السؤال الذي يراودني دائمًا، هو أنه بالاحتفاء تتسخ بواطن الأقدام، وربما كان الاتّساخ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم غير ضارّ، فمعظمه تربة، أو غيرها مما يزول بسهولة، أما في زمننا، فإن الاحتفاء في الشوارع يكون مؤذيًا، فالقمامة ونحوها من الزجاج وغيره من الأشياء الضارة في الطرقات، وبعض الوسخ صعب الإزالة، ناهيك عن ألسنة الناس، وقذفهم لمن قد يرونه حافيًا في الطرقات، وهذا كان قدر فهمي لهذه السنة. فإذا كان في فهمي أي خطأ أو تأويل، فأرجو منكم إرشادنا، وجزاكم الله خيرًا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد جاء في حديث فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمِيرًا بِمِصْرَ، قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَا أَرَى عَلَيْك حِذَاءً، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِيَ أَحْيَانًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
ولا شك أن الإنسان قد يتضرر، أو يتأذى بالمشي حافيًا في بعض المواطن؛ كالمشي على الإسفلت مثلًا، لا سيما إذا كان حارًّا، أو في موطن فيه شيء من الزجاج، أو في مكان متنجس، ونحو ذلك.
والحديث لا يدل على أن المسلم مطالب بالمشي حافيًا على كل حال، ولو كان سيتضرر، أو يتأذى، وإنما يدل على مشروعية التحفي أحيانًا، وهذا لا شك حيث أمكن، فلا يطالب المسلم بالمشي حافيًا فيما يظن أنه يتأذى بالمشي فيه، وهذا مما تنزه عنه الشريعة، كما قال ابن الجوزي تعليقًا على الحديث الموضوع: إِذا تسارَعْتُمْ إِلَى الخَيْرِ، فامْشُوا حُفاةً. فيما نقله عنه المناوي في فيض القدير، فقد قال -رحمه الله تعالى-: قال ابن الجوزي: من أهل العلم من يمشي حافيًا عملًا بهذا الحديث الموضوع وشبهه؛ وذلك مما تنزه الشريعة عنه، والمشي حافيًا يؤذي العين والقدم وينجسها. انتهى. والأوجه أنه إن أمِن تنجس قدميه؛ ككونه في أرض رملية مثلًا، ولم يؤذه، فهو محبوب أحيانًا بقصد هضم النفس وتأديبها؛ ولهذا ورد أن المصطفى كان يمشي حافيًا ومنتعلًا، وكان الصحب يمشون حفاة ومنتعلين. اهــ.
ومثله ما قاله أهل العلم في حديث النهي عن المشي في نعل واحدة أنه يمشي حافيًا إن لم يتأذَّ، أو حتى يصلح نعله -إن كان المشي حافيًا يؤذيه-، ففي الفتح للحافظ ابن حجر: فَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: يَخْلَعُ الْأُخْرَى وَيَقِفُ، إِذَا كَانَ فِي أَرْضٍ حَارَّةٍ، أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا يضر فِيهِ الْمَشْي فِيهِ؛ حَتَّى يُصْلِحَهَا، أَوْ يَمْشِيَ حَافِيًا، إِنْ لَمْ يكن ذَلِك. قَالَ ابن عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْفَتْوَى، وَفِي الْأَثَرِ، وَعَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ. اهــ.
وقال شيخ الإسلام في شرح العمدة في باب الإحرام: وَمَنْ أَرَادَ الرُّكُوبَ، أَوِ الْمَشْيَ حَافِيًا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَهُ أَنْ لَا يَنْتَعِلَ. اهــ.
وإذا أمكن المشي حافيًا، وكان الناس يذمّونه على ذلك ويعيبونه، فقد ذكر بعض أهل العلم أن من المروءة أن لا يمشي حافيًا، جاء في مواهب الجليل للحطاب المالكي: وَالْمُرُوءَةُ هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى فِعْلِ مَا تَرَكَهُ مِنْ مُبَاحٍ بِوُجُوبِ الذَّمِّ عُرْفًا، كَتَرْكِ الْمَلِيءِ الِانْتِعَالَ فِي بَلَدٍ يُسْتَقْبَحُ فِيهِ مَشْيُ مِثْلِهِ حَافِيًا، وَعَلَى تَرْكِ مَا فِعْلُهُ مُبَاحٌ يُوجِبُ ذَمَّهُ عُرْفًا، كَالْأَكْلِ عِنْدَنَا فِي السُّوقِ، وَفِي حَانُوتِ الطَّبَّاخِ لِغَيْرِ الْغَرِيبِ. اهــ.
وبهذا ترى أن أهل العلم يقيدون المشي حافيًا بما لا يتأذى، أو يتضرر به الماشي، ولا يعيبه به الناس، وأن الشريعة لم تأت بالمشي حافيًا على كل حال.
والله أعلم.