الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر العلماء روايات متعددة عن قصة مولد إبراهيم -عليه السلام-، وهي من الإسرائيليات، وليست مما ثبت في الكتاب، أو السنة، ولم نقف على رواية مطابقة للرواية التي ذكرتها، جاء في تفسير البغوي: قال أهل التفسير: ولد إبراهيم -عليه السلام- في زمن نمرود بن كنعان، وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه، ودعا الناس إلى عبادته، وكان له كهان ومنجمون، فقالوا له: إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغيّر دين أهل الأرض، ويكون هلاكك، وزوال ملكك على يديه، يقال: إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء -عليهم السلام-.
وقال السدي: رأى نمرود في منامه كأن كوكبًا طلع، فذهب بضوء الشمس والقمر؛ حتى لم يبق لهما ضوء، ففزع من ذلك فزعًا شديدًا، فدعا السحرة والكهنة، فسألهم عن ذلك، فقالوا: هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة، فيكون هلاكك وهلاك ملكك وأهل بيتك على يديه، قالوا: فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة، وأمر بعزل الرجال عن النساء، وجعل على كل عشرة رجال رجلًا، فإذا حاضت المرأة خلّى بينها وبين زوجها؛ لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض، فإذا طهرت حال بينهما، فرجع آزر، فوجد امرأته قد طهرت من الحيض، فواقعها، فحملت بإبراهيم -عليه السلام-.
وقال محمد بن إسحاق: بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقرية، فحبسها عنده، إلا ما كان من أم إبراهيم -عليه السلام-، فإنه لم يعلم بحبلها؛ لأنها كانت جارية حديثة السن، لم يعرف الحبل في بطنها.
وقال السدي: خرج نمرود بالرجال إلى معسكر، ونحّاهم عن النساء؛ تخوفًا من ذلك المولود أن يكون، فمكث بذلك ما شاء الله، ثم بدت له حاجة إلى المدينة، فلم يأتمن عليها أحدًا من قومه إلا آزر، فبعث إليه ودعاه، وقال له: إن لي حاجة أحببت أن أوصيك بها، ولا أبعثك إلا لثقتي بك، فأقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك، فقال آزر: أنا أشحّ على دِيني من ذلك، فأوصاه بحاجته، فدخل المدينة، وقضى حاجته، ثم قال: لو دخلت على أهلي، فنظرت إليهم، فلما نظر إلى أم إبراهيم -عليه السلام- لم يتمالك حتى واقعها، فحملت بإبراهيم -عليه السلام-.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-: لما حملت أم إبراهيم، قال الكهان لنمرود: إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمّه الليلة، فأمر نمرود بذبح الغلمان، فلما دنت ولادة أم إبراهيم -عليه السلام-، وأخذها المخاض، خرجت هاربة؛ مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها، فوضعته في نهر يابس، ثم لفته في خرقة، ووضعته في حلفاء، فرجعت، فأخبرت زوجها بأنها ولدت، وأن الولد في موضع كذا وكذا، فانطلق أبوه، فأخذه من ذلك المكان، وحفر له سربًا عند نهر، فواراه فيه، وسدّ عليه بابه بصخرة مخافة السباع، وكانت أمّه تختلف إليه فترضعه. اهـ.
وأما قولك: (وقد جَعَلَ ذلك دليلًا على الحجْر الصِّحي من وباء كُورونا، أيْ: أنه بالرَّغم من الحَجْرِ زمَن ولادة إبراهيم -عَلَيْه الصَّلاةُ السَّلام- إلَّا أنَّ الله شاء ولادته): فإن كان المقصود الاستدلال على أن الحجر الصحي لن يمنع من إصابة الشخص بالوباء، إذا قدّر الله عليه: فإن هذا أمر بدهي ظاهر، ولا يحتاج إلى الاستدلال بمثل تلك الحكاية؛ فإن من أصول الاعتقاد: أن السبب لا يستقل بالتأثير وحده، بل لا بد له من أسباب أخرى معه، وانتفاء الموانع عنه حتى يؤثر، ولا يتم ذلك كله إلا بمشيئة الله سبحانه، فمشيئة الله تعالى وحدها هي المستقلة بالتأثير.
لكن مع ذلك: لا يصح تعطيل الأسباب، وترك الأخذ بها، فهذا تواكل، وعجز مذموم، بل المطلوب هو الأخذ بالأسباب، مع التوكل على الله، والاعتماد عليه وحده، قال ابن تيمية: وهو مسبب الأسباب، وخالق كل شيء بسبب منه، لكن الأسباب كما قال فيها أبو حامد، وأبو الفرج ابن الجوزي، وغيرهما: الالتفات إلى الأسباب، شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا، تغيير في وجه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية، قدح في الشرع.
والتوكل معنى يلتئم من معنى التوحيد، والعقل، والشرع، فالموحّد المتوكل لا يلتفت إلى الأسباب، بمعنى أنه لا يطمئن إليها، ولا يثق بها، ولا يرجوها، ولا يخافها; فإنه ليس في الوجود سبب يستقل بحكم، بل كل سبب فهو مفتقر إلى أمور أخرى تضمّ إليه، وله موانع وعوائق تمنع موجبه، وما ثم سبب مستقل بالإحداث، إلا مشيئة الله وحده، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما شاء خلَقَه بالأسباب التي يحدثها، ويصرف عنه الموانع، فلا يجوز التوكل إلا عليه، كما قال تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران:160].
والعلل التي تنفى نوعان:
أحدهما: أن تعتمد على الأسباب، وتتوكل عليها، وهذا شرك محرم.
والثاني: أن تترك ما أمرت به من الأسباب، وهذا أيضًا محرم.
بل عليك أن تعبده بفعل ما أمرك به من الأسباب، وعليك أن تتوكل عليه في أن يعينك على ما أمرك به، وأن يفعل هو ما لا تقدر أنت عليه بدون سبب منك. اهـ. من منهاج السنة.
وقال أيضًا: ومجرد الأسباب، لا يوجب حصول المسبب؛ فإن المطر إذا نزل، وبذر الحب، لم يكن ذلك كافيًا في حصول النبات، بل لا بد من ريح مربية -بإذن الله-، ولا بد من صرف الانتفاء عنه؛ فلا بد من تمام الشروط، وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج، بل كم من أنزل ولم يولد له؛ بل لا بد من أن الله شاء خلقه، فتحبل المرأة، وتربيه في الرحم، وسائر ما يتم به خلقه من الشروط، وزوال الموانع. اهـ. من مجموع الفتاوى.
والحجر الصحي من الأسباب المشروعة للوقاية من الوباء، والتي ينبغي الأخذ بها، كما سبق بيانه في الفتوى: 417253.
والله أعلم.