السؤال
أعلم أنه يجب أن نذكر محاسن موتانا، ولكني أقول هذا من أجل التوضيح فقط لا غير.
أمي -رحمة الله عليها- كانت لا تُحسن معاملتي، ودائما توقع بيني وبين أخواتي بكلام مغلوط ليس له أساس من الصحة.
وقد منعت نفسي من زيارتها كثيرا، منعا للمشاكل. وكنت أطمئن عليها بالاتصال الهاتفي، وأحيانا أزورها. وأنا حريصة على قلة الكلام معها؛ لكي لا تحصل أي مشكلة.
والله يعلم أني في آخر سنتين لها كنت حريصة جدا على أن أكسب رضاها، ولكن قلبها كان يقسو علي كثيرا، وتفرق بيني وبين أخواتي، وتفرق في المعاملة بين أولادي وأولادهن، مع العلم أن طبيعتي التي خلقني الله عليها هي أني قليلة الكلام، أغضب وأكتم في نفسي وأسكت، وأبعد نفسي عنها نهائيا.
ماتت أمي وقلبي متألم عليها، وأدعو لها كثيرا بالرحمة والمغفرة، وأتمنى أي شيء يطمئنني أو يوجهني.
ماذا أفعل لكي تسامحني أمي على شيء لم أفعله، وجعلها لا تحبني مثل أخواتي، رغم أنها في آخر أيامها كانت تعاملني بطيبة، وتدعو لي ولزوجي وأولادي، ولكني أشعر بالذنب ولا أعرف سبب ذلك؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما تشعرين به من ذنب تجاه والدتك -رحمها الله تعالى- هو في الغالب شعور أهل البر من الناس بوالديهم، فإن البار يظل ينتابه الشعور بأنه قد أذنب وقصر في حق والديه.
ولا شك أن التقصير حاصل من كل أحد تجاه والديه، فمهما فعل الولد لوالديه يظل مقصرا في حقهما؛ لعظم هذا الحق، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يجزي ولد والداً، إلا أن يجده مملوكا فيشتريه، فيعتقه.
لكن ليس معنى حصول التقصير حصول الإثم، فقد يكون الولد معذورا شرعا في بعض التقصير بسبب تعامل الوالد معه بصلف وتعسف وعدم إنصاف؛ كمثل بعض التصرفات التي ذكرت.
وإذا كان الغالب على حال الولد بر والديه والإحسان إليهما، فإن الله سبحانه يتجاوز عما يكون منه في حقهما من الهفوة والبادرة التي تصدر منه وقت الضجر والغضب، قال سبحانه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا {الإسراء:25}.
قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية: وقال ابن جبير: يريد البادرة التي تبدر، كالفلتة والزلة تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما، لا يريد بذلك بأسا. قال الله تعالى: إن تكونوا صالحين. أي صادقين في نية البر بالوالدين. فإن الله يغفر البادرة. وقوله: فإنه كان للأوابين غفورا.. وعد بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة. انتهى.
علما بأن هذا الشعور بالذنب والتقصير في حق أمك، تكفره التوبة الصادقة وكثرة الاستغفار، والمداومة على الدعاء لها والصدقة عنها، وإكرام أصدقائها وصلة أرحامها؛ فإن ذلك من البر الذي لا ينقطع بوفاتها. فقد روى أبو داود وابن ماجه عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي -رضي الله عنه- قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما.
والله أعلم.