السؤال
أنا فتاة في التاسعة عشرة من عمري، ومنذ صغري لم أكن أملك ذكاء اجتماعيًّا يساعدني على تكوين صداقات، ومشكلتي هي أني قاطعة للرحم مع أختي التي تكبرني بست سنوات، والتي كانت -ولا زالت- تدمّر نفسيتي بكلامها، وتسخر مني ومن شكلي، وأنا أكرهها كرهًا شديدًا.
وبعد أن قاطعتها صارت تثير معي المشكلات، وتصرخ فيَّ بسبب وبدون سبب، وهي إنسانة تافهة جدًّا، كل همّها اللبس، والمكياج، وكنت إذا أخبرتها عن إحدى زميلاتي تسألني: "هل هي جميلة؟"، وتظنّ أن مكانة الشخص ترتفع بجماله.
كثيرًا ما كانت تدعوني بالغبية بعدما قاطعتها، وأنا إنسانة حساسة جدًّا، ولم أكن أردّ عليها، وأتجاهلها، ولكن الانزعاج من كلامها كان باديًا على وجهي، وبسبب ذلك أشعر أنني قد أهدرت كرامتي.
وهي الآن متزوجة، وقد قاطعتها منذ خمس سنوات، وطيلة هذه الفترة لم أكن أوفّق في دراستي الثانوية، والجامعية، فليس لي صديقات، وحظّي سيئ، وأتعرّض للتنمّر من زميلاتي، وأهمل صلاتي بسبب أثر اللعنة على حياتي.
كثيرًا ما أسأل نفسي: هي كانت تدمّر نفسيتي، وتهزأ بي، فكيف لذلك أن يكون ظلمًا لها؟ أليس هذا نتيجة أفعالها هي؟ وكيف تكون صلتي لها دينًا من حقّها عليَّ بعد كل ما فعلته بي؟
بعد مقاطعتي لها كنت لا أذهب لزيارة أقاربي، وأتجنّبهم حتى في الأعياد، ولم أكن أعلم أن ذلك خطأ، ولا أعلم ما السبب، فطالما لم أؤذِهم، فهم في حالهم، وأنا في حالي، فكيف أكون قد ظلمتهم، وصلتي لهم لن تزيدهم أو تنقصهم شيئًا؟
لديَّ -للأسف- اثنا عشرة عمًّا وعمّة، وستة من الأخوال والخالات، وأنا أقاطعهم جميعًا، ولا أعلم كيف لقطيعة الرحم أن تكون كبيرة من الكبائر؟ وهل كل صلواتي التي صلّيتها كأني لم أقم بها؟ وهل كان من الأفضل أن لا أتعب نفسي؟ وإذا وصلت رحمي، فهل سيجب عليَّ قضاء كل تلك الصلوات كأني لم أصلها، وكذلك صيامي؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فصلة الرحم واجبة، وقطعها محرم من كبائر المحرمات؛ ومفسدة قطع الرحم ظاهرة لكل ذي عقل، وفطرة سليمة؛ فقطع الرحم سبب لانهيار النظام الاجتماعي، ولا يرتاب مسلم في كون الشرع المطهر يضمن مصالح العباد في الدارين، وأنّ مخالفة الشرع سبب الفساد والخسران.
واعلمي أنّ صلة الرحم ليس لها في الشرع قدر معين، أو وسيلة محددة، ولكنّها تحصل بكل ما يعدّ في العرف صلة، وهي درجات متفاوتة، وتختلف باختلاف العرف، والأحوال، جاء في إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين: وصلة الرحم، أي: القرابة، مأمور بها أيضًا، وهي فعلك مع قريبك ما تعدّ به واصلًا، وتكون بالمال، وقضاء الحوائج، والزيارة، والمكاتبة، والمراسلة بالسلام، ونحو ذلك. انتهى.
وقال العيني -رحمه الله- في عمدة القاري شرح صحيح البخاري: قال القاضي عياض -رحمه الله-: وللصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة، وصلتها بالكلام -ولو بالسلام-، ويختلف ذلك باختلاف القدرة، والحاجة؛ فمنها واجب، ومنها مستحب، ولو وصل بعض الصلة، ولم يصل غايتها؛ لا يسمّى قاطعًا، ولو قصر عما يقدر عليه، وينبغي له أن يفعله؛ لا يسمى واصلًا. انتهى.
فصلة الرحم أمر ميسور في وسع كل أحد، وإذا فرض أن بعض الأرحام كان مؤذيًا؛ فصلته تكون بما فيه اجتناب أذاه، وراجعي الفتوى: 425998.
وعليه؛ فالواجب عليك صلة أرحامك حسب طاقتك، بما لا يجلب لك ضررًا.
واعلمي أن قطع الرحم لا يبطل الصلاة، والصيام، وغيرها من العبادات؛ فلا يجب عليك إعادة شيء من الصلاة، أو الصيام بسبب قطع الرحم.
ووصيتنا لك أن تستعيني بالله تعالى، وتتوكّلي عليه.
ومن أعظم ما يعينك على الطاعات، ويجنّبك الوقوع في المعاصي، ويعينك على تحقيق ما تبتغين من النجاح في الدنيا؛ المحافظة على الصلاة، وإقامتها على وجهها؛ فإنّها مفتاح كل خير، قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ {البقرة:45}، قال السعدي -رحمه الله-: فبالصبر، وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور، ومن يتصبّر يصبّره الله، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، يستعان بها على كل أمر من الأمور. انتهى.
والله أعلم.