السؤال
عندنا في مسجدنا في شهر رمضان، بعد صلاة المغرب، يقوم أغلب المصلين بحجز الأماكن التي صلوا فيها، بحيث لا تجد أي مكان تقريباً في الصف الأول بعد صلاة المغرب مباشرة، بينما الصفوف الأخرى فارغة. منهم من يذهب ليأكل في بيته، ومنهم من يحضر طعامه معه إلى المسجد. بعضهم يذهب إلى آخر المسجد للأكل، ومنهم من يذهب إلى الطابق العلوي، ومنهم من يلوث المكان، ومنهم من لا يحرص على النظافة. فهل هذا الفعل جائز عند حجز المكان والأكل ثم الرجوع؟ وهل الأفضل الأكل في البيت مع الأهل أم في المسجد للحرص على الصف الأول؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اشتمل سؤالك على مسألتين:
المسألة الأولى هي: حجز مكان للصلاة في الصف الأول، ثم الذهاب، والعودة إليه بعد ذلك، والحكم في هذه المسألة أن الشخص إذا قام من مجلسه في المسجد لحاجة كوضوء مثلاً، ثم رجع قريبًا، فهو أحق بمكانه هذا.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: (من قام من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحق به) قال أصحابنا: هذا الحديث فيمن جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلاً، ثم فارقه ليعود، بأن فارقه ليتوضأ، أو يقضي شغلاً يسيرًا ثم يعود، لم يبطل اختصاصه، بل إذا رجع فهو أحق به في تلك الصلاة، فإن كان قد قعد فيه غيره، فله أن يقيمه، وعلى القاعد أن يفارقه لهذا الحديث، هذا هو الصحيح عند أصحابنا، وأنه يجب على من قعد فيه مفارقته إذا رجع الأول.
وقال بعض العلماء: هذا مستحب، ولا يجب، وهو مذهب مالك. والصواب: الأول.
قال أصحابنا: ولا فرق بين أن يقوم منه ويترك فيه سجادة ونحوها أم لا، فهذا أحق به في الحالين.
قال أصحابنا: وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة وحدها دون غيرها، والله أعلم. اهـ.
وقال البهوتي في كشاف القناع، وهو من كتب الحنابلة: (ومن قام من موضعه) من المسجد (لعارض لحقه، ثم عاد إليه قريبًا، فهو أحق به). لما روى مسلم عن أبي أيوب مرفوعًا: من قام من مجلسه، ثم رجع إليه فهو أحق به. اهـ.
وعليه؛ فإن من يصلي المغرب في الصف الأول، ثم يحجز مكانه الذي صلى فيه ويذهب إلى بيته، أو لمكان آخر، ثم يعود بعد وقت طويل، لا يعتبر أحق من غيره بالمكان الذي حجزه، كما يظهر من نصوص أهل العلم السابقة، وقد حذّر أهل العلم من تحجير مكان في المسجد مع غيبة الشخص عنه.
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ليس لأحد أن يفرش شيئًا ويختص به مع غيبته ويمنع به غيره. هذا غصب لتلك البقعة، ومنع للمسلمين مما أمر الله تعالى به من الصلاة.
والسنَّة أن يتقدم الرجل بنفسه، وأما من يتقدم بسجادة، فهو ظالم، ينهى عنه، ويجب رفع تلك السجاجيد، ويمكّن الناس من مكانها. اهـ. وانظر المزيد في الفتوى: 96918.
المسألة الثانية هي: الأكل في المسجد، وأصله الجواز بشرط الأمن من تلويثه وتقذيره، فعن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، قال: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الخبز واللحم. رواه ابن ماجه، وصححه الشيخ الألباني.
وللاطلاع على أقوال أهل العلم راجع الفتويين: 77398، 204754.
ويتأكد تجنب الأكل في المسجد ممن لا يتحرز من تلويث المسجد بالطعام وغيره، فإن الأصل في المساجد أن تُعظّم، وتجنّب كل ما يؤدي لتقذيرها.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله، وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) فيه: صيانة المساجد وتنزيهها عن الأقذار، والقذى، والبصاق، ورفع الأصوات، والخصومات، والبيع، والشراء، وسائر العقود، وما في معنى ذلك. اهـ.
فمن كان يتحرز من تلويث المسجد؛ فالظاهر أن الأفضل له أن يأكل في المسجد، لإحراز فضيلة الصف الأول، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وملازمة المسجد، وفي هذا من الأجور العظيمة ما ينبغي للمسلم الحرص عليه.
والله أعلم.