الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فرحم الله والدكم، وأصلح أحوالكم، ووقاكم شرور أنفسكم .. وأما بالنسبة لموضوع السؤال، فلابد أن يعلم السائل أن أمر التركات وسائر الحقوق المشتركة، هي أمور خطيرة وشائكة للغاية، فلا بد من رفعها للمحاكم الشرعية أو ما ينوب منابها، للنظر والتحقيق والتدقيق والبحث في الأمور الخفية، وإيصال الحقوق لذويها. ولا يمكن الاكتفاء في مثل هذه الأمور بمجرد فتوى أعدها صاحبها طبقاً لسؤال ورد عليه، خاصة إذا كانت متشابكة ومتطاولة الزمان ومتعددة الأطراف، وذات أبعاد لا يمكن أن يحاط بها عن طريق سؤال مكتوب، كما هو الحال هنا، ولذا فإنا سنكتفي ببيان أصول الموضوع في هذه المسألة، من خلال النقاط الآتية:
1ـ هبة الوالد لأولاده لابد فيها من العدل، فلا يجوز تخصيص أحد الأبناء بالهبة إلا لمسوغ شرعي، فإن خصص الوالد بعضهم بغير مسوغ ثم مات ردت هذه الهبة إلى التركة، على الراجح من أقوال أهل العلم. كما فصلناه في الفتوى رقم: 107734. ويشتد الإثم ويعظم الجرم إذا كان التفضيل للذكور على الإناث، لقول النبي صلى الله عليه وسلم اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء. وعلى ذلك، فينبغي أن ينظر في الشقتين اللتين أعطاهما الوالد لابنيه، هل أعطى بقية أبنائه عوضا مساويا أو مقاربا عنهما أم لا؟ وهذا العوض قد يكون مالا أو ذهبا أو غير ذلك من المقتنيات.
وأما ما اكتسبه الأبناء الذكور من التجارة في مال أبيهم في حياته، واشتروا به أراضٍ وسيارات، وكتبوها بأسمائهم، بموافقته وموافقة أخواتهم، فلا حرج فيه، وهو ملك خاص بهم، وليس لبقية الورثة شيء فيه، إن كان هذا المال يقارب أجرة مثلهم في ما قاموا به من عمل مع أبيهم، فإن أباهم كما يظهر لم يخصهم بذلك إلا نظير عملهم وجهدهم معه في تنمية التجارة، وهذا مسوغ مقبول، وليس فيه ظلم لمن عداهم من الأولاد، فهو (تقدير لجهودهم) كما جاء في السؤال. وراجع في ذلك الفتويين: 119007، 59825.
2ـ ما بذله الأبناء وأمهم من المال لتنمية التجارة المذكورة، إما أن يكون هبة وإما أن يكون قرضا، ولا يصلح أن يكون شركة، لأنهم لم يتفقوا على ذلك، ولم يحددوا نصيب كل شريك لا في رأس المال، ولا في الربح، ويؤكد هذا ما ذكر في السؤال من أن دخل المحل كان يقسم على كل من البنات والبنين، في معيشتهم وزواجهم. وأن الوالد قد اشترى للوالدة ذهبا عوضا عن الذهب الذي باعته من أجل التجارة.
فإن كان هبة فلا أثر لذلك في الميراث، وإن كانت قرضا فليس للمقرض من ميراث أبيه شيئا زائدا على نصيبه الشرعي إلا بمقدار قرضه. وراجع للفائدة الفتوى رقم: 46068.
وبذلك يعلم أن هذه التجارة وهذا المحل باق على أصل ملكيته للوالد، وينتقل لجميع ورثته من بعده بحسب أنصبتهم، وليس للأبناء فيه شيء زائد عن أنصبتهم الشرعية. وأما جهدهم المبذول في تنمية التجارة في حياة أبيهم فقد عوضهم أبوهم عنه بما اشتروا به الأراضي والسيارات المذكورة، مع ما أنفقوا منه في زواجهم ومعايشهم وعليهم رد الزائد مما عوضهم إن كان لا يتناسب مع ما بذلوا حينئذ في الإيثار من غير مسوغ وهو أمر محرم كما قدمنا.
3ـ الكتابة الصورية للمحل باسم الأخ الأكبر والأخت والأم، لا أثر لها في انتقال الملكية، فإن مجرد التسجيل في الأوراق الرسمية دون نية التمليك لا يعتبر هبة، ولا يصح به انتقال الملك، فإن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، كما سبق بيانه في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 95942، 36133، 7685.
وعلى ذلك فلا أثر لهذه الكتابة، ولا للتنازل عن مقتضاها، كما فعل الأخوات من كتابة تنازل عن حقهن من ميراث والدتهن من المحل، فإن ملكية الأم غير متحققة أصلا، وبذلك يتبين أن مطالبتهن بالرجوع في هذا التنازل لا معنى لها. وإنما يحق لهن أن يطالبن بحقهن في ميراث أبيهن، سواء من المحل أو البيت أو أموال التجارة على ما سبق بيانه.
والله أعلم.