الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة: رويدك بالقوارير.
فقال النووي: اختلف العلماء في المراد بتسميتهن قوارير على قولين، ذكرهما القاضي وغيره، أصحهما عند القاضي وآخرين وهو الذي جزم به الهروي وصاحب التحرير وآخرون: أن معناه أن أنجشة كان حسن الصوت وكان يحدو بهن وينشد شيئا من القريض والرجز وما فيه تشبيب، فلم يأمن أن يفتنهن ويقع في قلوبهن حداؤه، فأمره بالكف عن ذلك. ومن أمثالهم المشهورة: الغنا رقية الزنى. قال القاضي: هذا أشبه بمقصوده صلى الله عليه وسلم وبمقتضى اللفظ .. والقول الثاني: أن المراد به الرفق في السير؛ لأن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واستلذته فأزعجت الراكب وأتعبته، فنهاه عن ذلك؛ لأن النساء يضعفن عند شدة الحركة ويخاف ضررهن وسقوطهن. اهـ.
وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان): المرأة سريعة الانفعال للأصوات جداً، فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت ومن جهة معناه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة حاديه: يا أنجشة رويدك رفقاً بالقوارير: يعني النساء.اهـ. وراجعي الفتوى رقم: 132541.
وأما كون الجواري اللاتي غنين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كن كبارا ولسن صغيرات السن، فلا يصح، وقد نص غير واحد من أهل العلم على خلافه.
قال القاري في (مرقاة المفاتيح): "وعندها جاريتان" أي: بنتان صغيرتان، أو خادمتان مملوكتان. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أقر الجواري عليه معللا ذلك بأنه يوم عيد، والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد كما جاء في الحديث "ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة" وكان لعائشة لعب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها. اهـ.
وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان): أقرهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين، تغنيان بغناء الأعراب، الذى قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب، وكان اليوم يوم عيد .. اهـ. وراجعي الفتوى رقم: 19007.
على أننا ننبه على اختلاف حقيقة الغناء الذي رُخِّص فيه، عن الغناء المذموم.
قال ابن رجب في (فتح الباري): لاريب أن العرب كانَ لهم غناء يتغنون به، وكان لهم دفوف يضربون بها، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر الحروب وندب من قتل فيها، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل، ليس فيها جلاجل فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرخص لهم في أوقات الأفراح، كالأعياد والنكاح وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف، والتغني مع ذلك بهذه الأشعار، وما كان في معناها. فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد أعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة، على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس، المجبول محبته فيها، بآلات اللهو المطربة، المخرج سماعها عن الاعتدال، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه، ونهوا عنه وغلظوا فيه، حتى قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل اهـ.
وأما مسألة (ساعة وساعة) فقد سبق لنا بيان الفهم الصحيح لذلك، فراجعي الفتويين: 26260، 129613.
وأما مسألة سماع المرأة لإنشاد الرجال فهو وإن كان جائزا من حيث الأصل، إلا أنه يحرم إن أدى إلى فتنة أو شهوة وريبة، وراجعي في ذلك الفتويين: 76255، 48250.
والله أعلم.