الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يتم عليك نعمته، وأن يوفقك للاستقامة على التوبة، وطلب العلم النافع.
وأما جواب ما سألت عنه، فالظاهر مما ذكرتِ أن والدك ـ غفر الله له وعفا عنه ـ قد أخذ هذه الأقراط بنيَّة التملك والانتفاع، لا لتعريفها والبحث عن مالكها. فإن كان كذلك، فقد ارتكب إثما ـ غفر الله له ـ ووجب ضمانها لمالكها على أية حال، ولا يحل أن تُمتَلك بعد ذلك وإن عُرِّفت سنة كاملة.
قال ابن قدامة: إذا التقط لقطة عازما على تملكها بغير تعريف، فقد فعل محرما، ولا يحل له أخذها بهذه النية، فإذا أخذها لزمه ضمانها، سواء تلفت بتفريط أو بغير تفريط، ولا يملكها وإن عرفها؛ لأنه أخذ مال غيره على وجه لا يجوز له أخذه، فأشبه الغاصب .اهـ.
وقال النووي في (منهاج الطالبين): إن أخذ بقصد الخيانة فضامن، وليس له بعده أن يعرف ويتملك. اهـ.
قال الخطيب الشربيني في شرحه (مغني المحتاج): متى صار الملتقط ضامنا في الدوام بحقيقة الخيانة أو بقصدها، ثم أقلع وأراد أن يعرفها ويتملك، كان له ذلك على الأصح، في أصل الروضة، وبه جزم القاضي الحسين، وهذا بخلاف ما إذا قصد الخيانة ابتداء؛ كما قال (وإن أخذ بقصد الخيانة فضامن) عملا بقصده المقارن لفعله (وليس له بعده) أي الأخذ خيانة (أن يعرف ويتملك) بعد التعريف (على المذهب) نظرا للابتداء كالغاصب. اهـ.
وقد سبق لنا بيان مذاهب أهل العلم في المال الملتقط إذا مرت عليه سنة دون أن يعرفه الملتقط، وأنه إن غلب على الظن أن صاحبه لا يطلبه لطول المدة، فإنه يُتصدَّق به عن صاحبه، وراجعي في ذلك الفتويين: 156613، 128643.
وأمر آخر لا بد من التنبيه عليه، وهو أن المنفعة مال متقوم، فيضمن بالغصب كسائر الأموال، فكل ما له أجرة بالعادة فإنها تضمن بالغصب، على الراجح من أقوال أهل العلم، وراجعي في ذلك الفتويين: 48561، 107416.
وإذا كان المغصوب معدا للاستغلال واستغل، فضمان الغاصب لمنافعه قد اتفقت عليه المذاهب الأربعة. وإذا لم يستغل ـ وهو معد للاستغلال ـ فالجمهور على ضمان منافعه، وراجعي في تفصيل ذلك الفتوى رقم: 104066.
وقال النووي في (منهاج الطالبين): تضمن منفعة الدار والعبد ونحوهما بالتفويت، والفوات في يد عادية. اهـ.
والتفويت يعني الاستعمال، كما قال الرملي وابن حجر الهيتمي في شرحهما.
وقال الشربيني في (مغني المحتاج): (وتضمن) بأجرة المثل (منفعة الدار والعبد ونحوهما) من كل ما له منفعة يستأجر عليها، كالكتاب، والدابة، والمسك (بالتفويت) كأن يطالع في الكتاب، أو يركب الدابة، أو يشم المسك. اهـ.
وعلى ذلك فاستعمال الأقراط على وجه التعدي يوجب ضمانها، وأجرة مثلها في هذه المدة.
وأما كون الوالد قد وهب هذه الأقراط للسائلة وهي صغيرة، فهذا لا يغير الحكم.
قال ابن قدامة في (المغني): إن وهب المغصوب لعالم بالغصب، استقر الضمان على المتهب، فمهما غرم من قيمة العين أو أجزائها، لم يرجع به على أحد؛ لأن التلف حصل في يديه، ولم يغره أحد، وكذلك أجر مدة مقامه في يديه، وأرش نقصه إن حصل. وإن لم يعلم، فلصاحبها تضمين أيهما شاء، فإن ضمن المتهب، رجع على الواهب بقيمة العين والأجزاء؛ لأنه غره. وقال أبو حنيفة: أيهما ضمن لم يرجع على الآخر. اهـ.
وقال ابن رجب في (القواعد): من قبض مغصوبا من غاصبه ولم يعلم أنه مغصوب، فالمشهور عن الأصحاب أنه بمنزلة الغاصب في جواز تضمينه ما كان الغاصب يضمنه من عين ومنفعة ... وهذه الأيدي القابضة من الغاصب مع عدم العلم بالحال عشرة: ... ـ فذكر ثمانية ثم قال: (اليد التاسعة) القابضة تملكا لا بعوض، إما للعين بمنافعها: بالهبة والوقف والصدقة والوصية. أو للمنفعة: كالموصى له بالمنافع. فالمشهور أنها ترجع بما ضمنته بكل حال. اهـ.
وعلى ذلك، فإن كانت الأخت السائلة تريد أن تبرئ ذمتها وذمة أبيها ـ رحمه الله ـ بعد هذه المدة الطويلة التي يتعذر معها البحث عن مالك هذه الأقراط، فعليها أن تتصدق بها عن مالكها، وأن تقدر أجرة الانتفاع بها طيلة هذه المدة، فتتصدق بها هي الأخرى عن مالك الأقراط. فإن عجزت عن ذلك اجتهدت في التصدق بما تستطيع مع الإكثار من الاستغفار لها ولأبيها.
والله أعلم.