الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن خلال أسئلتك الكثيرة والتي تدور في أغلبها هو حول الإيمان والوسواس فيه يبدو جليا أنك مصابة بقدر عظيم من الوساوس التي لا علاج لها إلا الإعراض عنها جملة وتفصيلا، فنسأل الله لنا ولكِ العافية في ديننا وقلوبنا وأبداننا.
وسنحاول في هذا الجواب التركيز على ما تضمنه سؤالك هذا، وسؤال لك آخر يحمل الرقم: 2417885، فنقول إن هذا الخوف الذي تشعرين به هو لما معك من الإيمان، الذي يكره به قلبك سبل الشر ولأجله يدافع وساوس الشيطان، فإن انتقلتِ من كراهته بالقلب إلى مدافعته بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ارتقيتِ إلى ما هو أعلى، فإن انتقلتِ إلى مدافعة ذلك بالاشتغال بالأعمال الصالحة التي تزيد الإيمان كالصلاة والصدقة وغير ذلك، كنت في أعلى مراتب تغيير ما تنكرينه، قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ {العنكبوت:45}.
ومما يعين على دفع وساوس الشيطان المداومةُ على أذكار الصباح والمساء وأذكار النوم مع الاستحضار لمعانيها، قال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {فصلت:36}.
وكذلك تلاوة القرآن وسماعه بخشوع وتدبر وتأمل في معانيه مما يلين القلب ويكسر قسوته، قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {الحشر:21}.
وقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {الحديد:16}.
وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {الأنفال:2}.
وروى البخاري عن جبير بن مطعم ـ وكان قد أتى المدينة في طلب فداء أسارى بدر ـ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّك أَمْ هُمْ الْمُصَيْطِرُونَ ـ قال: كاد قلبي أن يطير، وفي رواية قال: وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي.
وهذا القرآن أنزله الله شفاءً ورحمة، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {الإسراء:82}.
فما تجدينه في قلبك عند سماع القرآن نرجو أن يكون علامة خير لك، فإذا تدبرتِ القرآن عند تلاوته أو سماعه ووجدتِ في نفسك خشوعاً وسكينةً واضطراباً في القلب فاستبشري خيراً، فقد قال الله جل وعلا: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {التوبة:124}.
ولا تجعلي للشيطان عليك سبيلاً، لأن يقنِّطك من رحمة الله، وقد قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53}.
هذا مع قولك إنك لم ترتكبي ذنوباً كبيرة، والله جل وعلا يقول: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى {النجم: 31ـ32}.
فوازني بين الرجاء والخوف، وأحسني ظنكِ بالله، فإنه أرحم بالعبد من الأم بولدها، ولمعرفة بعض الأمور التي تلين القلب راجعي الفتوى رقم: 36116.
ثم لا شك أن الحياة مع الله هي ذروة السعادة التي هي غاية كل إنسان، ويعلم ذلك كل من ذاقها، ولذلك نجد غالب من يدخل في الإسلام يبكي بحرقة لما شعر به من التغير في قلبه ونفسه بمجرد خروجه من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ {البقرة:257}.
وقال: رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا {الطلاق:11}.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثٌ مَن كُن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار.
فكرهك الشديد للكفر ـ كما ذكرتِ ـ خصلة حميدة فيك هي من أسباب وجد حلاوة الإيمان، فاجتهدي معها في الخصلتين الأخريين تجدي في نفسك سعادةً لا توصف، وقد جُرب ذلك كثيراً كثيراً، وراجعي في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 68749، 102116، 69742.
وما ذكرتِه من كرهك لوساوس الشيطان الكفرية التي تراودك، مع مدافعتك إياها، فإن ذلك دليل الإيمان، فإن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاؤوه فقالوا له: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان. رواه مسلم.
وفي بعض الروايات قالوا: لأن يكون أحدنا حممة أحب إليه من أن يتكلم بها، وفي بعض روايات الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد الله الذي رد كيده إلى الوسوسة ـ قال النووي في شرح مسلم: معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه، ومن النطق به، فضلا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك. اهـ.
وقد ذكرنا حديث حلاوة الإيمان والذي فيه: وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ـ فاستمري في كره ذلك ودفعه، ثبتنا الله وإياكِ على الإيمان والطاعة، وراجعي في مسألة هذه الوساوس الفتوى رقم: 135798.
والله أعلم.