الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فكل ما تعاني منه الأخت السائلة يمكن أن يزول، وتشفى منه بإذن الله تعالى إذا أخذت بالأسباب الشرعية، وأول هذه الأسباب تقوى الله تعالى باتباع أمره واجتناب نهيه؛ فإن تقوى الله تعالى سبب لتفريج الكربات، وقد قال عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ {سورة الطلاق : 2 , 3 }. عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }. وقال الربيع بن خثيم: { يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي: من كل شيء ضاق على الناس.
كما نوصيك بكثرة ذكر الله تعالى؛ فإن ذكر الله أعظم دواء لما تجدينه من ضيق في الصدر، واكتئاب، كما قال تعالى: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {الرعد:28}.
قال السعدي في تفسيره: أي: حقيق بها وحريٌّ أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره؛ فإنه لا شيء ألذ للقلوب، ولا أشهى، ولا أحلى من محبة خالقها، والأنس به ومعرفته، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له، يكون ذكرها له، هذا على القول بأن ذكر الله، ذكر العبد لربه، من تسبيح وتهليل، وتكبير وغير ذلك .. اهــ.
وأكثري من الاستغفار؛ فإن الذنوب سبب لكل بلاء وضيق، وكرب؛ وقد جاء عند أبي داود والترمذي مرفوعا بسند فيه ضعف: مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.
وما ذكرته من أعراض أخرى ككثرة النسيان وغيرها، قد يكون بسبب مس من الجن، أو عين، أو سحر. وهذه أمور يُشرع لك أن ترقي نفسك منها بالرقية الشرعية؛ وانظريها في الفتوى رقم: 80694, وراجعي أيضا الفتوى رقم: 58076 والفتوى رقم: 51475، والفتوى رقم: 47939 والفتوى رقم: 70365، والفتوى رقم: 75778 والفتوى رقم: 72511.
ولا يجوز الذهاب إلى الرقاة الذين يتعاملون بالجن، أو من قلت عنهم إنهم يستدعون الجن، والغالب عليهم أنهم سحرة أو كهنة. فقد أخطأت أمك بأخذك إليهم، ولا يجوز أن تعلقي ما ذكروه لك من الحجاب السليماني؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من تعليق التمائم؛ وانظري لذلك الفتوى رقم: 6029 .
وما ذكرته من أنك إذا دعوت بشيء حصل عكسه، وأنك إذا تكلمت حصلت مصيبة. نظن أن فيه شيئا من المبالغة والتشاؤم. فالله تعالى وعد السائلين بالإجابة، وهو إما أن يعطيهم عين ما سألوه، أو يصرف عنهم من البلاء مثله، أو يدخر لهم ثواب دعوتهم يوم القيامة. فأحسني الظن به تعالى, واحرصي على التفاؤل الحسن، والبعد عن التشاؤم، وعن المبالغة في الشعور به؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ، الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ. متفق عليه. وَقَدْ أَخْرَجَ اِبْن مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنه الحافظ في الفتح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَفَعَهُ: كَانَ يُعْجِبهُ الْفَأْل، وَيَكْرَه الطِّيَرَة. فاستبشري خيرا، ولا تتحدثي عن نفسك بأنك امرأة مشؤومة ونحو ذلك؛ فإن الفأل بالخير فيه حسن ظن بالله تعالى، وتنشرح له الصدور.
وقال الحافظ في فتح الباري: قَالَ الْحَلِيمِيّ: وَإِنَّمَا كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبهُ الْفَأْل؛ لِأَنَّ التَّشَاؤُم سُوء ظَنّ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ سَبَب مُحَقَّق، وَالتَّفَاؤُل حُسْن ظَنّ بِهِ، وَالْمُؤْمِن مَأْمُور بِحُسْنِ الظَّنّ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلّ حَال. اهـــ.
وأما هل المؤمن التقي يمكن أن يجن. فإن كنت تعنين أنه يفقد عقله لمرض عضوي، فهذا يمكن أن يقع، والمؤمن كغيره معرض للمرض. وإن كنت تعنين أن الجن يتلبس به، فإن الجن أبعد ما يكونون عن المؤمن التقي، وكلما كان العبد أقوى إيمانا وتقوى كان الشيطان أبعد منه, وقد قال العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: مَا لَقِيَك الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّك. قالوا : لأنه لما قهر شهوته، وأمات لذته، خاف منه الشيطان. وفي التوراة: من غلب شهوات الدنيا، فرق الشيطان من ظله. ومثل عمر كإنسان ذي سلطان وهيبة، استقبله مريب رفع عنه أمور شنيعة، وعرفه بالعداوة، فانظر ماذا يحل بقلب المريب إذا لقيه. اهــ. قاله المناوي في فيض القدير.
ثم إن ما ذكرته من المشاكل التي تقع بين والديك، قد يكون سببا في شيء مما تعانينه من الأعراض المذكورة. فاجتهدي في البعد عن مشاكلهما، مع الدعاء لهما بالهداية والصلاح، ولا بأس بأن تعرضي نفسك أيضا على طبيبة مختصة بالأمراض النفسية؛ فإن هذا من التداوي المباح, ونسأل الله تعالى لك الشفاء العاجل.
والله تعالى أعلم.