الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يجعلنا وإياك منهم، والحديث أخرجه مسلم، عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: سأل موسى ربه، ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر ـ قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية.
قَالَ النَّوَوِيُّ: أما أردت: فبضم التاء ومعناه اخترت واصطفيت، وأما غرست كرامتهم بيدي إلى آخره، فمعناه اصطفيتهم وتوليتهم، فلا يتطرق إلى كرامتهم تغيير، وفي آخر الكلام حذف اختصر للعلم به تقديره ولم يخطر على قلب بشر ما أكرمتهم به وأعددته لهم. انتهى.
وقال ابن علان في دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين:.. غرست كرامتهم بيدي، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر ـ أي ما أعددت لهم من الكرامة، لعدم وجود شيء مما ذكر لأحد منهم. انتهى.
وبه يتبين أن قوله: كرامتهم، من الإكرام، وليست من الكرامة، فالمعنى أن الله أكرمهم كرامة عظيمة، وليس المقصود الكرامة والإهانة في الدنيا، وبالتالي، فالأصل أن كون الشخص أُكرِم، أو أُهين في الدنيا، ليس هو المعيار في تحصيل هذه الدرجة، وإنما المعيار هو تحقيق العبودية على الوجه الأتم، بكون العبد صالحاً، وليس بمجرد ترك الكبائر ـ مع عظيم شأن منزلة ترك الكبائر ـ فسبيل تحصيل هذه المنزلة أن يكون المرء من الصالحين، ففي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين.
فعلى المرء الاجتهاد للعمل بمثل عملهم، وانظر الفتاوى التالية أرقامها: 62979، 154639، 178083.
والله أعلم.