الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد تقدم بيان حكم الدم والانتفاع به في الفتوى رقم: 7020، فراجعه للفائدة.
وننبه أولاً إلى أن التكلف في البحث عن الحكم التي من أجلها فرض الله على عباده التكاليف الشرعية وتوقيف العمل على ذلك لم يكن من هدي السلف الصالح ولا عناية لهم به، إنما كان جل اهتمامهم رضي الله عنهم امتثال الأوامر واجتناب المحرمات وإظهار ما أمكنهم إظهاره من محاسن الشريعة الغراء.
وقد عرَّف شيخ الإسلام الهروي يرحمه الله تعظيم الأمر والنهي بقوله: تعظيم الأمر والنهي وهو أن لا يعارضا بترخص جافٍ، ولا يعرضا لتشدد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد. انتهى
قال الإمام ابن القيم يرحمه الله في شرح ذلك: وقوله: ولا يحملا على علة توهن الانقياد يريد أن لا يتأول في الأمر والنهي علة تعود عليهما بالإبطال؛ كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد، فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه كما قيل:
أدرها فما التحريم فيها لذاتها ===== ولكن لأسباب تضمنها السكر
إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى ===== فسيان ماء في الزجاجة أو خمر
وأما البحث عن الحكم الشرعي وأسرار التشريع لإزالة شبهة أو لإظهار عظمة الإسلام وبيان إعجاز القرآن ومقارعة الخصوم بالحجج والبراهين ونحو ذلك فأمر حسن، وقد كشف لنا العلم الحديث أن الدماء تعتبر مرتعاً صالحاً لتكاثر الجراثيم ونحوها، ثم هو فوق ذلك لا يحتوي على أي مادة غذائية، بل إنه عسر الهضم جدّاً، حتى إنه إذا صُبَّ جزء منه في معدة الإنسان تقيأه مباشرة، أو خرج مع البراز دون هضم على صورة مادة سوداء.
ومن هنا ندرك الحكمة والمقصد الشرعي من التذكية التي أمر الله بها قبل تناول لحوم الحيوانات، وذلك أن في هذه التذكية إخراجاً لتلك الدماء الخبيثة الضارة.
يقول الأستاذ أحمد الهاشمي: وقد أكدت جميع البحوث العلمية في هذا المجال أن الأضرار الناجمة عن شرب الدم أو طبخه كبيرة للغاية بسبب ما يحويه الدم من الجراثيم، فضلاً عن أن الدم عنصر فقير جدّاً من الناحية الغذائية، وأن القدر البروتيني الذي يحويه الدم يأتي مختلطاً بعناصر شديدة السمية، وغاية في الضرر، الأمر الذي يجعل الإقدام على تناوله مجازفة كبرى وإلقاء للنفس في التهلكة، بل هو فوق ذلك يحتوي على عناصر سامة يأتي في مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، وهوغاز قاتل خانق، وهذا ما يفسر تحريم المنخنق من الحيوان أيضاً، وذلك أن المنخنقة إنما تموت عن طريقة تراكم هذا الغاز في دمائها ما يؤدي إلى نفاقها. ولا يخفى أن تكرار شرب الدماء لمن اعتاد عليها وهي مشبعة بهذا الغاز القاتل مؤدٍ إلى أضرار صحية بالغة الخطورة قد تؤدي بحياة الإنسان. انتهى
فسبحان الله العظيم القائل: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 145].
ووصف القرآن العظيم نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 175].
والله أعلم.