الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأصل إشكال السائل هو قوله: (العلماء يقولون: الحرام ما عليه وعيد شديد)، وهذا الحصر، ثم تقييد الوعيد بالشدة، لا نعلم به قائلا من أهل العلم! وتصحيح هذه العبارة يكون بالتنبيه على أن الوعيد مما يستفاد منه الحكم بالحرمة، ولكن لا يشترط في الوعيد الشدة، ولا ينحصر التحريم فيه، بل يستفاد من ألفاظ وصيغ كثيرة اختصرها ابن القيم في (بدائع الفوائد) فقال: يستفاد التحريم من النهي، والتصريح بالتحريم، والحظر، والوعيد على الفعل، وذم الفاعل، وإيجاب الكفارة بالفعل، وقوله: "لا ينبغي" فإنها في لغة القرآن والرسول للمنع عقلا أو شرعا، ولفظة: "ما كان لهم كذا، ولم يكن لهم" وترتيب الحد على الفعل، ولفظة: "لا يحل، ولا يصلح" ووصف الفعل بأنه فساد، وأنه من تزيين الشيطان وعمله، وإن الله لا يحبه، وأنه لا يرضاه لعباده، ولا يزكي فاعله ولا يكلمه ولا ينظر إليه، ونحو ذلك. اهـ.
وقال الشيخ عبد الله الجديع في كتابه (تيسير علم أصول الفقه): يستفاد التحريم من صيغ كثيرة مستعملة للدلالة عليه في نصوص الشرع، ومنها:
1ـ لفظ (التحريم) الصريح، كقوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة: 275]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه) [رواه مسلم].
2ـ نفي الحل، كقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: 230]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال) [متفق عليه].
3ـ صيغة النهي، وهي أنوع تعود جملتها إلى:
[1] لفظ (النهي) الصريح، كقوله تعالى: {وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} [النحل: 90] وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه وقد وهبه خادما: (لا تضربه، فإني نهيت عن ضرب أهل الصلاة، وإني رأيته يصلي منذ أقبلنا) [رواه البخاري في الأدب المفرد 163 بسند حسن]. ويلحق بهذا قول الصحابي: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا).
[2] صيغة (زجر)، كحديث أبي الزبير قال: سألت جابرا (يعني ابن عبد الله) عن ثمن الكلب والسنور؟ قال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. [أخرجه مسلم].
[3] صيغة الأمر بالانتهاء، كقوله تعالى للنصارى: {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه، فليستعذ بالله ولينته) [متفق عليه].
[4] صيغة الفعل المضارع المقترن بـ (لا) الناهية، كقوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا} [الإسراء: 32]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) [متفق عليه].
[5] صيغة (لا ينبغي)، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحرير: ((لا ينبغي هذا للمتقين)) [متفق عليه].
[6] صيغة الأمر بالترك بغير صيغة النهي الصريحة، كقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90]، وقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة: 222]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) [متفق عليه]...
4ـ ما رتب على فعله عقوبة أو وعيد دنيوي أو أخروي فهو دليل على تحريمه، فمن صوره:
[1] عقوبة الحدود، كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]، وقوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة} [النور: 2].
[2] التهديد بالعقاب، كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 278ـ 279]... وقوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) [رواه مسلم]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة) [متفق عليه]، فهذه فضيحة يوم العرض.
[3] ترتيب اللعنة على الفعل، وهي نوع من العقوبة، وفيه نصوص كثيرة في الكتاب والسنة.
5 ـ وصف الفعل بأنه من الذنوب، ومنه وصفه بأنه كبيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي، وقطيعة الرحم) [حديث صحيح رواه أبوداود وغيره]، وعن أنس رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر؟ قال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور) [متفق عليه].
6ـ وصف الفعل بالعدوان، أو الظلم، أو الإساءة، أو الفسق، أو نحو ذلك، كحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثا ثلاثا، ثم قال: (هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم) [حديث حسن، أخرجه النسائي وغيره] ، وقوله تعالى: {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم} [البقرة: 282].
7ـ تشبيه الفاعل بالبهائم أو الشياطين أو الكفرة أو الخاسرين أو نحوهم، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه) [متفق عليه]، وقوله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء: 27]، وقوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة: 51]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة) [متفق عليه].
8ـ تسمية الفعل باسم شيء آخر محرم معلوم الحرمة، كوصف الفعل بأنه زنا أو سرقة أو شرك، أو غير ذلك، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق) الحديث [متفق عليه] وقوله صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته) قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق صلاته؟ قال: (لا يتم ركوعها ولا سجودها)) [حديث صحيح، رواه الدارمي وأحمد وغيرهما] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) [حديث صحيح رواه أبوداود والترمذي وغيرهما]. اهـ.
وأما ما ذكره السائل من ورع الأئمة عن التصريح بلفظ التحريم: فمعروف ومحمود، ولكنه في المقابل لا يعني: الإباحة، واللائق في مثل هذا الموضع أن ينزل كلامهم على ما عرف من اصطلاحهم هم، لا اصطلاحنا نحن! فمن الأخطاء الشنيعة أن يستدل بورعهم في إطلاق لفظ التحريم، على تجويزهم لما ذموه وعابوه ونهوا عنه وحذروا منه، وقد ذكر ابن القيم في (إعلام الموقعين) أمثلة كثيرة للمحرمات التي أطلق عليها الأئمة ـ كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ـ لفظ الكراهة، ثم قال: فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه، في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما المتأخرون فقد اصطلحوا على الكراهة تخصيصا بما ليس بمحرم وتركه أرجح من فعله، ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث فغلط في ذلك، وأقبح غلطا منه من حمل لفظ الكراهة أو لفظ "لا ينبغي" في كلام الله ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث، وقد اطرد في كلام الله ورسوله استعمال "لا ينبغي" في المحظور شرعا وقدرا وفي المستحيل الممتنع، كقوله تعالى: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} [مريم: 92]... اهـ.
وأما قول السائل: (نرى بعض علمائنا الكرام يحرمون أمورا ليس فيه نص ولا عليه وعيد...)! فقد كان الأولى بالسائل من اتهام العلماء بذلك: أن ينسب نفسه إلى التقصير في الفهم أو في طلب العلم، وحسبنا ما ذكرناه مما يستفاد منه التحريم، ليقف السائل على موارد الحكم بالحرمة، وأنها أوسع من مجرد النص أو الوعيد عليها.
وأما اللحية فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوفيرها وإطلاقها وإسدالها، بل قد جاء التصريح بلفظ الأمر ونسبته إلى الله تعالى، كما في حديث: "أمرني ربي أن أعفي لحيتي" وراجع في ذلك الفتوى رقم: 2711.
وأما الاستدلال على حرمة التدخين بكونه من الخبائث المضرة؛ فمن أوضح ما يكون من الاستدلال؛ لنص القرآن على تحريم هذه الشريعة الخاتمة للخبائث في قوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ {الأعراف:157}، ولا يشكل على هذا وصف البصل والثوم بالشجرتين الخبيثتين، فإن هذا الخبث يراد به مجرد الرائحة المؤقتة غير الدائمة، مع خلوهما من الضرر، بل وثبوت منافعهما الصحية والغذائية، وراجع تفصيل ذلك في الفتويين التالية أرقامهما: 123164، 106989.
والله أعلم.