الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فليس في الأمر ما يدعو إلى الحيرة، فالإيمان بالله تعالى، وصدق التوكل عليه، لا ينافي التداوي، وإتيان الطبيب للاستشفاء، مع الاعتقاد الجازم بأن الشفاء من الله تعالى. وهذا سيد المتوكلين، وأكمل الناس إيمانا صلى الله عليه وسلم، يأمر بذلك، ويحث عليه، ويقول: إن الله عز وجل حيث خلق الداء خلق الدواء، فتداووا. رواه أحمد، وحسنه الألباني والأرنوؤط. وعن أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب: يا رسول الله، ألا نتداوى؟ قال: نعم، يا عباد الله، تداووا؛ فإن الله لم يضع داء، إلا وضع له شفاء. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وأبو داود وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.
وقد سبق لنا بيان ذلك في الفتويين: 15012، 62685.
ومن جهة أخرى: فإن إتيان الطبيب، وطلب التداوي عنده، لا يتعارض مع الاستشفاء بالقرآن المجيد، والرقية الشرعية، والأذكار النبوية، والإلحاح في الدعاء. فإن القرآن المجيد شفاء، ورحمة للمؤمنين، وهذا الشفاء عام يشمل أمراض القلب، والصدر والنفس، وأمراض البدن والجوارح، والرقية الشرعية نافعة بلا شك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث. كما في الصحيحين وغيرهما.
وقد سبق لنا تفصيل ذلك في الفتوى رقم: 111313.
والمقصود أن جمع العبد بين التوكل على الله تعالى ودعائه، والرقية والأذكار الشرعية، وبين إتيان الأطباء وطلب الدواء منهم، هو كالجمع بين ذلك وبين الأخذ بسائر الأسباب، لا يتعارضان، وهما من جملة قدر الله تعالى.
وقد عقد ابن القيم في كتابه: (زاد المعاد في هدي خير العباد) فصلا في الحث على التداوي، وربط الأسباب بالمسببات، أورد فيه من السنة النبوية ما يخص هذا الموضوع.
ثم قال: في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش، والحر والبرد، بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا، ولا توكله عجزا. وفيها رد على من أنكر التداوي. اهـ.
وراجع للفائدة الفتويين: 80694، 80844.
والله أعلم.