الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن مثل هذه الوقائع المشتبهة يعسر إصدار حكم خاص عليها من خلال سؤال مقتضب، بل يحتاج الحكم إلى تصوّر تام للواقع.
وإنما الذي يقال بشكل عام: إن الأصل هو حرمة إقرار المنكر، وشهوده، والإعانة عليه، كما قال تعالى: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {المائدة:2}، وقال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ {النساء:140}، قال القرطبي في تفسيره: (إنكم إذن مثلهم) فدلّ بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: (إنكم إذن مثلهم).
فكل من جلس في مجلس معصية، ولم ينكر عليهم؛ يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلّموا بالمعصية، وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم؛ فينبغي أن يقوم عنهم؛ حتى لا يكون من أهل هذه الآية. اهـ.
لكن مع ذلك: فإن من القواعد الشرعية مراعاة تعارض المصالح والمفاسد، والموازنة بينها، فتحتمل أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وتفويت أدنى المصلحين لتحقيق أعلاهما، قال ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى- عمن يتولّى الولايات لتخفيف الظلم: إذا كان مجتهدًا في العدل، ورفع الظلم بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء غيره، كما قد ذكر؛ فإنه يجوز له البقاء على الولاية، والإقطاع، ولا إثم عليه في ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه.
وقد يكون ذلك عليه واجبًا، إذا لم يقم به غيره قادرًا عليه؛ فنشر العدل بحسب الإمكان، ورفع الظلم بحسب الإمكان، فرض على الكفاية، يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك، إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب -والحالة هذه- بما يعجز عنه من رفع الظلم. اهـ.
وقال -أيضًا- في فتوى مُطوَّلة حول تعارض المصالح والمفاسد: فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما؛ فتقدّم أحسنهما بتفويت المرجوح.
وإما بين سيئتين لا يمكن الخلوّ منهما؛ فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما.
وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما؛ بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة؛ وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة؛ فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة ...
فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها.
والحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مُفوِّتة لما هو أحسن منها؛ أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرّتها على منفعة الحسنة ...
إذا كان المتولّي للسلطان العام، أو بعض فروعه -كالإمارة، والولاية، والقضاء، ونحو ذلك-، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته، وترك محرماته، ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصدًا، وقدرة؛ جازت له الولاية، وربما وجبت؛ وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو، وقسم الفيء، وإقامة الحدود، وأمن السبيل؛ كان فعلها واجبًا. فإذا كان ذلك مستلزمًا لتولية بعض من لا يستحقّ، وأخذ بعض ما لا يحلّ، وإعطاء بعض من لا ينبغي؛ ولا يمكنه ترك ذلك؛ صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به؛ فيكون واجبًا أو مستحبًّا، إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب.
بل لو كانت الولاية غير واجبة، وهي مشتملة على ظلم؛ ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها، ودفع أكثره باحتمال أيسره؛ كان ذلك حسنًا مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدًا، وهذا باب يختلف باختلاف النيات، والمقاصد ...
من هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفارًا، كما قال تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به} الآية، وقال تعالى عنه: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} الآية، ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك، وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دِين الله؛ فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل، والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم}.
فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما، فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبًا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرمًا في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب، وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق، لم يضر. اهـ.
ثم بين ابن تيمية أن مسائل التعارض بين المصالح من المسائل التي يحصل فيها الاشتباه، وتحتاج من العالِم إلى تدبّر، فقال: وباب التعارض باب واسع جدًّا لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة؛ فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات؛ وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات، فيرجحون هذا الجانب، وإن تضمّن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات، فيرجّحون الجانب الآخر، وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات؛ لكون الأهواء قارنت الآراء؛ ولهذا جاء في الحديث: {إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات}. فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل .اهـ.
فالذي يمكننا قوله هو: إذا كان في توليكم تنظيم الفعاليات مصلحة شرعية ظاهرة، هي أعظم من المفاسد المقارنة لتلك الفعاليات، فيرجى ألا يكون عليكم حرج في تنظيمها، وإلا: فالأصل هو منع تنظيم الفعاليات المشتملة على محاذير شرعية، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بحجة ظاهرة بينة.
مع التنبه إلى أن الأهواء وحظوظ النفس قد تدخل في صورة الحرص على تحقيق المصالح الشرعية، وتكون حقيقة الأمر مجرد رغبة في التفوّق على الفرق الأخرى، ومنافستها على مصالح دنيوية.