جاءت السنة النبوية مفصلة ومبيِّنة للأحكام المجملة في آيات عديدة من القرآن الكريم؛ واللفظ (المجمل) هو ما لم تتضح دلالته، والمراد ما كان له دلالة في الأصل، ولم تتضح، ويكون التفصيل ببيان كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو لواحقه وما أشبه ذلك؛ كبيانها للصلوات على اختلافها في أنواع مواقيتها، وركوعها وسجودها وسائر أحكامها، وبيانها للزكاة في مقاديرها ونُصبِ الأموال وتعيين ما يزكى مما لا يزكى، وبيان أحكام الصوم وما فيه، مما لم يقع النص عليه في الكتاب العزيز.
كما فصّلت السنة في أحكام الطهارة والحج والذبائح والصيد، وما يؤكل مما لا يؤكل، والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان، والبيوع وأحكامها، والجنايات والقصاص وغيره، كل ذلك بيان لما وقع مجملاً في القرآن الكريم، وهو الذي يظهر دخوله تحت قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44)، وسنعرض هنا لمثالين لتوضيح ذلك النوع من البيان (تفصيل مجمل القرآن بالسنة):
المثال الأول: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة: 38).
- ظاهر الآية يقتضي قَطع سارق القليل والكثير، والعقل لا يهتدي إلى الفصل فيه بحد تقف المعرفة عنده، فجاءت السنة بتحديده بربع دينار؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: "ما طال عليّ ولا نسيتُ: القطعُ في ربع دينار فصاعدًا" متفق عليه.
- وظاهر الآية يقتضي القطع في كل مال لا يسرع إليه الفساد أو يسرع كالخضار والفاكهة، فجاءت السنة مفصلة أن من سرق ثمرًا ونحوه لا تقطع يده؛ فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا قطع في ثمرٍ ولا كثرٍ) رواه أبو داود وابن ماجه.
- لم تبين الآية اشتراط الحِرز الذي يجب قطع يد السارق به، وجاءت السنة مبينة له، ففي الحديث: (.. ومن سرق شيئًا منه بعد أن يُؤوِيه الجَرِينُ، فبلغ ثمن المجنِّ فعليه القطعُ..) رواه أبو داود والنسائي، واشترطه الفقهاء للقطع في السرقة، ورد في زاد المستقنع قوله: "فإن سرقه من غير حرز فلا قطع، وحرز المال ما العادة حفظه فيه، ويختلف باختلاف الأموال والبلدان..".
- جاءت السنة لتبين أن حد السرقة وغيره من الحدود لا يقام في المساجد، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقام الحدود في المساجد، ولا يستقاد فيها) رواه أحمد.
- فصلت السنة أنه لا يقام الحد مع وجود شبهة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم) رواه الترمذي، ومثّل الفقهاء للشبهة: أنه لا يقطع السارق بالسرقة من مال أبيه وإن علا، ولا بسرقة مال ولده وإن سفل؛ لأن نفقة كل منهما تجب في مال الآخر.
المثال الثاني: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (البقرة:43).
- لفظ "الصلاة" لا يعرف المراد منه، ولا يعلم المطلوب منه؛ لأن إقامة الصلاة قد تحصل بفعل صلاة واحدة، أو عدد من الصلوات وقد تحصل بطرائق مختلفة وفي أوقات متعددة، ومعلوم أن التكليف بالصلاة أو بغيرها لا يكون مبهماً وغامضاً، وإنما يكون واضحاً ومعلوماً، وبالتالي لا يعرف المراد منه من الصيغة التي وردت، أي: من هذا اللفظ وأسلوبه، وإنما يعرف بالرجوع إلى أمر شرعي آخر، هذا الأمر الشرعي الذي بيّن المراد من لفظ الصلاة هو السنة النبوية الشريفة، وهي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، التي وضحت المقصود من الصلاة، وبينت كيفيتها، ووقتها، وشروطها، وأركانها، ومندوباتها، وغير ذلك مما هو معروف في أحكام الصلاة.
- وهكذا، فقد جاءت صفة الصلاة مجملة، بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم بأفعاله وأقواله حين قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري.
فهذه التفصيلات وغيرها وردت في السنة، فلولا السنة لما عرفت كيفية الصلاة ومقدار الزكاة وصفة الحج وأحكام البيوع والجنايات ونحو ذلك، وعلى ذلك أكثر الآيات، يقول الإمام النووي رحمه الله في هذا الصدد: "على السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات، فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات، وبيانها في السنن المحكمات، وقد اتفق العلماء أن على القاضي والمفتي أن يكون عالمًا بالأحاديث الحكميات".