إذا كانت السنة مبيّنة للقرآن وموضّحة له، وإذا كان القرآن قد دل على كل ما في السنة إجمالا وتفصيلا على رأي المحققين من العلماء، أخذا بقول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) ، فعلى أي وجه تم ذلك مع أننا نرى أحكاما كثيرة لم ترد في القرآن؟ وكيف اشتمل القرآن على السنة؟
يذكر العلماء في ذلك خمسة طرق، نُجملها فيما يلي:
الأولى: أن القرآن دل على وجوب العمل بالسنة، فكل عمل بما جاءت به السنة عملٌ بالقرآن، ويدل عليها ما رُواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب - وكانت تقرأ القرآن - فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7).
ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر أن عبد الرحمن بن يزيد رأى مُحرما عليه ثيابه فنهاه، فقال: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي، فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7).
وروى الدارمي أن طاووسا كان يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اتركهما، فقال: إنما نهي عنهما أن يتخذا سنة، فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة بعد صلاة العصر، فلا أدري أتعذب عليهما أم تؤجر؟ لأن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36).
الثانية: أن الكتاب مجمل والسنة مفصلة له, كالأحاديث الواردة في بيان ما أُجمِل ذكره من الأحكام، إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه، أو موانعه أو لواحقه أو ما أشبه ذلك، فبيانها للصلوات على اختلافها في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها، وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة، وبيان أحكام الصوم مما لا نص عليه في القرآن، وكذلك أحكام الحج والذبائح والأنكحة وما يتعلق بها، والبيوع وأحكامها، والجنايات من القصاص وغيره، مما وقع بيانًا لما أُجمِل في القرآن، وهو الذي يظهر دخوله تحت قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44).
وقد قيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير: "لا تحدثونا إلا بالقرآن"، فقال مطرف: "والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا"، ومن هنا قال الإمام الأوزاعي: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب"، قال ابن عبد البر: "يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه".
وسئل الإمام أحمد عن الحديث الذي روي أن السنة قاضية على الكتاب فقال: "ما أجسر على هذا أن أقوله، إن السنة تفسر الكتاب وتبينه".
الثالثة: النظر إلى المعاني الكلية التي يقصدها التشريع القرآني في مختلف نصوصه، وأن ما في السنة من أحكام لا يعدو هذه المقاصد والمعاني، وتفصيل ذلك أن القرآن جاء بتحقيق السعادة للناس في حياتهم الدنيا والأخرى، وجماع السعادة في ثلاثة أشياء:
1- الضروريات: وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل.
2- الحاجيات: وهي كل ما يؤدي إلى التوسعة ورفع الضيق والحرج، كإباحة الفطر في السفر أو المرض.
3- التحسينات: وهي ما يتعلق بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
هذه الأمور الثلاثة ومكملاتها قد جاء بها القرآن الكريم أصولاً يندرج تحتها كل ما في القرآن من أحكام، وقد جاءت بها السنة تفريعًا عن الكتاب وتفصيلاً لما ورد فيه منها، فجميع نصوص السنة ترجع بالتحليل إلى هذه الأصول الثلاثة.
الرابعة: أن القرآن قد ينص على حكمين متقابلين، ويكون هناك ما فيه شبه بكل واحد منهما، فتأتي السنة وتلحقه بأحدهما أو تعطيه حكمًا خاصًا بما يناسب الشبهين، وقد ينص القرآن على حكم بشيء لعلة فيه، فيلحق به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما وجدت فيه العلة عن طريق القياس.
أمثلة للحكمين المتقابلين:
- أن الله أحل الطيبات وحرم الخبائث، فبقيت أشياء لا يدرى أهي من الطيبات أم من الخبائث، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ملحقة بإحداهما، فنهى عن أكل كل لحوم الحمر الأهلية، كما ألحق الضب والحبارى والأرنب وأشبهها بالطيبات.
- أحل الله صيد البحر فيما أحل من الطيبات، وحرم الميتة فيما حرم من الخبائث، فدارت ميتة البحر بين الطرفين فأشكل حكمها، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) رواه الأربعة، وقال أيضا: (أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال) رواه ابن ماجه.
- حرم الله الميتة وأباح المذكاة، فدار الجنين الخارج من بطن المذكاة ميتًا بين الطرفين فاحتملهما، فقال عليه الصلاة السلام: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) رواه أبو داود والترمذي وحسنه، ترجيحًا لجانب الجزئية على جانب الاستقلال.
أمثلة لما أعطي حكمًا خاصًا بين شبهين:
- أحل الله النكاح وملك اليمين، وحرم الزنى، وسكت عن النكاح المخالف للشرع، فإنه ليس بنكاح محض ولا سفاح محض، فجاء في السنة: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل منها) رواه أبو داود.
- جعل الله النفس بالنفس، وأقصَّ من الأطراف بعضها من بعض، أما في الخطأ: ففي القتل الدية، وفي الأطراف دية بينتها السنة، فأشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بضربة من غيرها، فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف، ويشبه الإنسان التام لخلقته، فبينت السنة أن ديته الغرة - وهي عبد أو أمة - والحديث متفق عليه، وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين له.
أمثلة للإلحاق عن طريق القياس:
- حرم الله الربا، وقد كان ربا الجاهلية هو فسخ الدين بالدين، يقول الطالب: إما أن تقضي وإما أن تربي، ولما كانت العلة فيه إنما هو من أجل كونه زيادة من غير عوض، ألحقت به السنة كل ما فيه زيادة بذلك المعنى، فقال عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد) رواه مسلم.
- حرم الله الجمع بين الأختين في النكاح، وجاء في القرآن : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} (النساء: 24) فجاء نهيه عليه الصلاة والسلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس، لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع بين الأختين موجود هنا، وهو ما عبر عنه في الحديث: (فإنكم إذا فعلتم ذلك، قطعتم أرحامكم) والتعليل يُشعر بوجه القياس.
- حرّم الله من الرضاعة الأمهات والأخوات، فألحق النبي عليه الصلاة والسلام بهاتين - عن طريق القياس - سائر القرابات من الرضاعة اللاتي يحرمن من النسب، كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وأشباه ذلك، فقال: (إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب) رواه مسلم.
الخامسة: إرجاع كل ما في السنة من الأحكام التفصيلية إلى الأحكام التفصيلية الموجودة في القرآن، ومن أمثلته:
- عندما طلق عبد الله بن عمر زوجه وهي حائض، قال - عليه الصلاة والسلام - لعمر - رضي الله عنه - : (مره فليراجعها ثم يتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء) متفق عليه، يعني أمره في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق: 1).
- حديث سبيعة الأسلمية - رضي الله عنها - "إذ ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر، فأخبرها - عليه الصلاة والسلام - أن قد حلت" متفق عليه، فبين الحديث أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (البقرة: 234) مخصوص في غير الحامل، وأن قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق: 4) عام في المطلقات وغيرهن.
وهذا النمط في السنة كثير، لكن نصوص القرآن لا تفي بهذا المقصود بحيث تتسع لكل أحكام السنة مع التزام جانب الدقة، وإمكان تحمل النص ذلك حسب البيان العربي والإشارة العربية، قال الشاطبي: "وأول شاهد في هذا - أي تعذر ذلك في كل النصوص - الصلاة والحج والزكاة والحيض والنفاس واللقطة والقراض والمساقاة والقسامات وأشباه ذلك من أمور لا تحصى، فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب، ولا يوافق على مثلها السلف الصالح ولا العلماء الراسخون في العلم".
هذه هي أهم المسالك التي سلكها العلماء للبرهان على احتضان القرآن للسنة وانضوائها تحت رايته، ومنها كما رأينا مسالك عامة لا تدل إلا على أن القرآن دل على وجوب العمل بها، ومنها ما لا ينفرد وحده بسلك جميع أحكام السنة في الطريق الذي اختاره، ومنها ما يتسع لذلك.
والأولى أن تجعل كلها طرقًا يتمم بعضها بعضًا، ولا شك أن مجموعها كفيل بإرجاع جميع أحكام السنة - حتى التي أتت بأحكام جديدة - إلى نصوص القرآن، وبذلك يتم تفسير قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) على أحسن وجه وأدق بيان.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
مكانة السنة النبوية