حرصت الشريعة الإسلامية في أحكامها على منح المكلفين الحرية في التصرفات المالية، من حيث إباحة الملكية الفردية، وإباحة التصرفات المالية المختلفة، ولكن هذه الحرية ليست حرية مطلقة، بل لها قيود وضوابط تضبطها وتجعلها قائمة على ميزان مستقيم، ومن تلك المعايير والقيم: إقامة العدل، ودفع الظلم، فحرصت الشريعة الإسلامية في أحكامها على تحقيق مقصد العدل في سائر التصرفات المالية، وتأكيدها على ذلك بترتيب الثواب والعقاب؛ وهذا له أثره في حفظ حقوق العباد المالية وضمانها، وبالتالي يقوم كل مكلف بأداء ما عليه من واجبات لزمته، وكذلك بأن يطالب بما له من حقوق مشروعة، وفق ميزان عادل، وقسطاس مستقيم.
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "المعاملات من المبايعات والإجارات والوكالات والمشاركات والهبات والوقوف والوصايا ونحو ذلك من المعاملات المتعلقة بالعقود والقبوض؛ فإن العدل فيها هو قوام العالمين لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به. فمن العدل فيها ما هو ظاهر يعرفه كل أحد بعقله كوجوب تسليم الثمن على المشتري، وتسليم المبيع على البائع للمشتري، وتحريم تطفيف المكيال والميزان، ووجوب الصدق والبيان، وتحريم الكذب والخيانة والغش، وأن جزاء القرض الوفاء والحمد. ومنه ما هو خفي جاءت به الشرائع أو شريعتنا - أهل الإسلام - فإن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل والنهي عن الظلم: دقه وجله؛ مثل أكل المال بالباطل. وجنسه من الربا والميسر. وأنواع الربا والميسر التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم مثل بيع الغرر وبيع حبل الحبلة وبيع الطير في الهواء والسمك في الماء والبيع إلى أجل غير مسمى وبيع المصراة وبيع المدلس والملامسة والمنابذة والمزابنة والمحاقلة والنجش وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وما نهى عنه من أنواع المشاركات". انتهى
ويقول ابن القيم – رحمه الله – في كتابه أعلام الموقعين: "إن الله أرسل وأنزل كتبه بالعدل الذي قامت به السموات والأرض وكل أمر أخرج من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى عكسها فليس من شرع الله في شيء وحيثما ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره". انتهى
ومقصد العدل في المعاملات المالية واضح وملحوظ، وقد ورد التعبير عنه في كتب القواعد الفقهية بألفاظ متنوعة، ومردها إلى هذا المقصد، مثل المعاملة مبناها على العدل، أو المعاوضة مبناها على المعادلة والمساواة بين الجانبين أو الأصل في المعاوضات والمقابلات هو التعادل بين الجانبين، وهذه بعض جوانبه على سبيل التمثيل لا على سبيل الاستيعاب:
التأكيد على تحريم الربا
في صحيح مسلم عن جابر، قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه , وشاهديه، وقال: هم سواء». يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: "والأصل في العقود جميعها هو العدل؛ فإنه بعثت به الرسل وأنزلت الكتب والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم وعن الميسر لما فيه من الظلم والقرآن جاء بتحريم هذا وهذا وكلاهما أكل المال بالباطل".
ولا شك أن الربا هو عين الظلم، إذ فيه استحلال لأموال الناس بالباطل، واستغلال لحاجة الفقير من قبل أصحاب رؤوس الأموال، من خلال اشتراط الزيادة الجائرة أضعافا مضاعفة، فجاء الإسلام بالنهي عن هذا التعامل الموغل في الإجرام، تحقيقا لمقصد العدل بين الناس، وشرع المعاملات القائمة على البيوع، والمرابحات، والإجارات، التي يكون كل من العاقدين فيها له حق وعليه واجب، فوزعت الشريعة الحقوق والواجبات بميزان العدل، بحيث لو تأملنا في كل عقد من العقود لوجدناها قائمة على أن كلا من الطرفين له غنم وعليه غرم.
تحريم الرشوة
وهي كل ما يدفعه الإنسان ليتوصل من خلالها إلى أمر لا يحل له شرعاً، وقد ورد في السنة: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم)، أخرجه الترمذي، وحسنه الألباني.
وواقع المجتمعات التي سادت فيها هذه الجريمة خير شاهد على اختلال ميزان العدل، فأصبح الكفؤ غير قادر على الوصول إلى حقه، من فرص التعليم أو التوظيف، بل حتى في أبسط حقوقه كالصحة مثلا، وهذه الجريمة إذا فشت في مجتمع من المجتمعات ساد الظلم والتعدي على أموال الناس بعضهم على بعض؛ فتحريم الرشوة فيه تحقيق لمقصد العدل في التصرفات المالية الذي تدعوا إليه الشريعة الإسلامية.
الأمر بوضع الجوائح
ففي حديث جابر رضي الله عنه «أن النبي ﷺ وضع الجوائح» أبو داود والنسائي والإمام أحمد.
وفي صحيح مسلم: «أمر بوضع الجوائح»، وعنه أيضًا أن رسول الله ﷺ قال: «لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟» رواه مسلم.
والجائحة: هي كل آفة لا صنع للآدمي فيها كالريح الشديدة، والبرد القارس، والحر الشديد، والجراد ونحو ذلك من الآفات السماوية، وما حصل بفعل الآدمي لا يسمى جائحة.
وصورة المسألة التي يتبين بها مقصد العدل: فيما إذا تلف المعقود عليه قبل التمكن من قبضه لم يجب على العاقد من مشترٍ أو مستأجر، ونحوهما، دفع الثمن أو الأجرة، وهذا ما يسمى بوضع الجوائح؛ لأن الأصل في العقود العدل من الجانبين، واستلام كل منهما ما عاقد عليه، فإذا لم يحصل لأحدهما ما عاقد عليه لم يكن للآخر أن يأخذ منه العوض بلا مقابل، وهذه المسألة لها تفاصيل فقهية، وخلاف فقهي شهير، وإنما غرضنا هنا هو إبراز مقصد العدل، وهو ظاهر والحمدلله.
تحريم الاحتكار
والاحتكار: هو أن يدخر السلعة من أقوات الناس حتى يغلو ثمنها فيبيعها، مع شدة الحاجة إليها من عموم الناس، وهو محرم لقول النبي - ﷺ - كما ثبت في مسلم من حديث معمر بن عبد الله: (لا يحتكر إلا خاطيء) رواه مسلم، قال ابن القيم: وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر لهم تعسير العدل.
ويبرز مقصد العدل في مبدأ النهي عن الاحتكار من خلال الموازنة بين حق البائع في الربح، وبين حق المشتري في رواج السلع، وسهولة الوصول للأقوات، ولذلك في الأنظمة الرأسمالية التي تردت في المادية المحضة، تشجع على الوصول إلى الربح، ولو على حساب المستهلكين، فتقوم بعض الشركات العملاقة بإتلاف الأطنان من الحبوب في البحار للحفاظ على الأسعار بمستويات عالية، بينما يموت الآلاف من البشر جراء الجوع والمجاعات، وهذه صورة من صور اختلال العدل حين تنفلت النفوس البشرية عن منظومة القيم التي تنظم عملية التبادل المالي والتجاري.