
بينما كنت أقلب في مواقع السوشيال ظهر لي مقطع لمجموعة من الكلاب مات واحد منها، فاجتمعت الكلاب فحفروا له حفرة، ثم وضعوا فيها صاحبهم الميت، ثم هالوا عليه التراب حتى دفنوه.
أخذني العجب وكدت أكذِّب عيني، وقلت لصديق لي رأى معي المقطع: وهل صارت الكلاب مكلَّفةً ووجبَ عليها دفنُ من مات منها؟
قال لي صاحبي: وما علاقةُ هذا بالتكليف، ومتى عرفنا أن الحيوانات مكلفةٌ؟ إنما هو تصرُّف تصرفته مجموعةٌ من الكلاب صادف أن وافق شيئا مما شرعه الله للمكلفين من خلقه، ولا علاقة لهذا بكون الكلاب مكلفةً بالشرع أو غير مكلفة.
فقلت له: فلماذا إذا يعترض بعض الناس على الإمام البخاري عندما روى أثر عمرو بن ميمون وقصة القِرْدَةِ التي زنت، فرجمها القِرَدَةُ بالحجارة حتى قتلوها هي ومن زنا بها، أو بالأحرى هي ومن وقع عليها؟ ولماذا طار بهذا الخبر المستهزؤون بالسنة والطاعنون عليها والشانئون للدين ولكل ما يتعلق به، واتخذوا ذلك تُكَأةً للطعن في التراث الإسلامي كله، والتشنيع على السنة وعلى العلماء وعلى الدعاة، وعلى البخاري نفسه وعلى كتابه، وأنه فيه كذب على الرسول، وفيه ما يخالف العقول، ويخالف الشرع والدين نفسه؟
قال صاحبي:
إن أكثر هؤلاء الناس ما بين مُلْحِدٍ ومغرض وضال وجاهل.. وبين مفتون ينكر السنة لهوى أو أمر في نفسه، أو مخدوع بمن يقول بهذا.. وعامة هؤلاء لم يقرؤوا البخاري ولم يعلموا ما فيه.. لمحاولة القراءة والفهم، أو دعوة النفس لمعرفة أقوال أهل العلم، وخاصة من شرح صحيح البخاري كابن حجر والبدر العيني والكرماني والقسطلاني وغيرهم..
ويدلك على صحة ما ذكرته أن أكثرهم ينسب هذا القول إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، إلا النادر منهم.. ولو أنهم عادوا إلى البخاري لعلموا أن هذا الذي يطعنون فيه، ليس بحديث أصلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا هو من قول صحابي من الصحابة، وإنما هو أثر عن رجل من التابعين هو عمرو بن ميمون الأودي.. وقع له أمر في الجاهلية فحكاه للناس، ورواه عنه أهل الحديث، وذكره البخاري في صحيحه ليدلل به على شيء عظيم من فقهه..
قال الإمام البخاري رحمه الله: "حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ ـ قَدْ زَنَتْ ـ فَرَجَمُوهَا.. فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ".[فتح الباري:7/ 160].
هذا ما رواه البخاري رحمه الله، وقد ذكر الرواية المختصرة، واكتفى بها لأن فيها الشاهد المراد للاستدلال به، كما يأتي.
والأثر له رواية مطولة ساقها الإسماعيلي في مستخرجه على البخاري ونقلها ابن حجر في الفتح فقال: "قَدْ سَاقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُطَوَّلَةً مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ حِطَّانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْيَمَنِ فِي غَنَمٍ لأهلي، وأنا على شرف، فجَاء قرد مَعَ قِرَدَةٍ فَتَوَسَّدَ يَدَهَا، فَجَاءَ قِرْدٌ أَصْغَرُ مِنْهُ فَغَمَزَهَا، فَسَلَّتْ يَدَهَا مِنْ تَحْتِ رَأْسِ الْقِرْدِ الأول سلًّا رَقِيقا وَتَبِعَتْهُ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَأَنَا أَنْظُرُ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَجَعَلَتْ تُدْخِلُ يَدَهَا تَحْتَ خَدِّ الْأَوَّلِ بِرِفْقٍ، فَاسْتَيْقَظَ فَزِعًا، فَشَمَّهَا فَصَاحَ، فَاجْتَمَعَتِ الْقُرُودُ، فَجَعَلَ يَصِيحُ وَيُومِئُ إِلَيْهَا بِيَدِهِ، فَذَهَبَ الْقُرُودُ يَمْنَةً ويسرة فجاؤوا بِذَلِكَ الْقِرْدِ أَعْرِفُهُ، فَحَفَرُوا لَهُمَا حُفْرَةً فَرَجَمُوهُمَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجْمَ فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ".
وكما ترى.. فإن هذا ليس بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد صحابته، ولا هو من أصول البخاري في كتابه، ولا هو على شرطه في الصحيح، وإنما هو أثر أورده البخاري عن عمرو بن ميمون لحاجة أراد بيانها..
فليس للبخاري في هذا إلا نقل الخبر بالسند الذي ساقه، وهو سند ليس من أقوى أسانيده، ولا هو بالسالم عن النقد، وقد انتقده عليه بعض المحدثين الكبار من باب علو رتبة الرواة وكونهم ليسوا في الغاية من الإتقان.. ولكن عموما الأثر ثابت صحيح.
لماذا ساق البخاري الأثر؟
اختار البخاري الرواية القصيرة المقتضبة، ولم يذكر الرواية المطولة؛ إذ لا حاجة له بها، لأن سياقه للأثر لم يكن مراده منه إثبات واقعة زنا القردة ولا الرجم، ولا علق هو على ذلك، وإنما ساق الخبر لأحد أمرين، أو للأمرين جميعا:
السبب الأول: أنه كان يتحدث عن أمور كانت في الجاهلية، قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وماذا كان يفعل أهلها، ولذلك وقع الأثر في "باب القسامة في الجاهلية"، وقد ساق في هذا الباب والذي قبله "باب في الجاهلية"، أحاديث كلها تتعلق بأعمال كانت تعمل في الجاهلية، ليبين حال الناس فيها، فناسب هذا الحديث الباب فذكره..
السبب الثاني: ليثبت أن عمرو بن ميمون ليس صحابيا، وإنما هو من المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية قبل الإسلام، وعاصروا النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن لم يتيسر لهم لقاؤه، فهو ليس بصحابي، وإنما مثله يقال عنهم المخضرمون، ويعدون من كبار التابعين.. ولذلك قال القرطبي رحمه الله: "إن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاري دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية، ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية" اهـ. [الجامع لأحكام القرآن:1/ 442].
إمام ثقة
وعمرو بن ميمون "هو الأودي" إمام حافظ لم يتهمه أحد في حفظه، وإنما هو ثقة حافظ.. قال عنه الذهبي في السير: "الإمام الحجة أبو عبد الله، أدرك الجاهلية، وأسلم في الأيام النبوية"، وقال ابن حجر في الإصابة في ترجمته: "قال العجليّ: تابعي ثقة.. قال: ووثّقه ابن معين والنسائي وغيرهما".
وهو يحكي قصة عاشها بنفسه، فلا مجال لإنكارها عليه، فقد قال: "رأيت"، وقال في بعض الروايات "فرجمتها معهم"، يعني هو على يقين مما يقول، فلا مكان لكونه أخطأ أو نسي أو لبس عليه، بل ذكر قصة بكل تفاصيلها من أولها إلى آخرها، وكان أحد المشاركين فيها.
وخلاصة القصة أنه رأى أيام الجاهلية قردة تركت صاحبها النائم وذهبت إلى قرد آخر فوقع عليها وتسافدا، فلما علم صاحب القرْدة بما فعلت صرخ فاجتمعت القردة فحفروا للقرد والقردة حفرة وضربوهما بالحجارة حتى ماتا... وعمرو بن ميمون في هذا الوقت كان كافرا، ولم يسلم، ولم يكن يعرف حد الرجم، ولم يكن حتى عرف هذا بين المسلمين.. فلما أسلم وعلم تذكر الحادثة وحكاها..
وقد روي أن بعض الناس سألوه عن أعجب ما رأى في الجاهلية؟ فقص عليهم هذه القصة..
اعتراض العلماء
واعترض بعض العلماء على هذه القصة، وحاول بعضهم تضعيفها ولكنها صحيحة، وحاول البعض نفيها عن الصحيح وكلامهم مردود رده الأئمة الكبار.
ومن يتأمل يجد الاعتراض ليس لاستحالة وقوعها، ولا لاتهام عمرو بني ميمون في حفظه، وإنما كان اعتراضهم على نسبته الزنا للقردة، ووصف ما فعلوه بالرجم، بحجة أن القردة غير مكلفة. قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستيعاب: 3/1206: "هذا عند جماعة أهل العلم منكر: إضافة الزنا إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم".
وعمرو بن ميمون رحمه الله لم يقل إن هذا زنا بالمفهوم الشرعي، وأن القردة وقعت في المحرم الذي نهاها الله عنه، ولا قال أيضا: إن الرجم كان عقوبة وحدًّا على ما فعلاه من الزنا والفجور.. أبدا، وإنما رأى شيئا أشبه صورة الزنا، وصورة للعقوبة أشبهت صورة الرجم، فعبر عنها باللفظ ولا يقصد الحكم.. وإن لم يكن يطلق عليها زنا حقيقيا، أو رجما حقيقيا.. فالحيوانات غير مكلفة يقينا.. ولكن الصورة أشبهت الصورة فذكرها كذلك عمرو بن ميمون، ولم يقل عمرو ولا أحد من المسلمين أن هذا تكليف للقردة بالرجم، وتحريم للزنا بين القرود..
ولذلك قال ابن حجر ردا على اعتراض ابن عبد البر فقال: "لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زنا حقيقة ولا حدًّا، وإنما أطلق ذلك عليه لشبهه به، فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان".
أمر لا يستغرب
ووقوع هذه الحادثة من القرود أمر لا يستغرب ولا يستبعد، والقردة من أذكى الحيوانات وأشبهها بالبشر، وليس شيء أشبه بالإنسان في الزواج والغيرة منه، قال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث": "والبهائم قد تتعادى، ويثب بعضها على بعض، ويعاقب بعضها بعضا، فمنها ما يعض، ومنها ما يخدش، ومنها ما يكسر ويحطم، والقرود ترجم بالأكف التي جعلها الله لها كما يرجم الإنسان". يقصد أنها يمكنها أن تمسك بيدها الحجارة وتضرب بها.
وفي عالم الحيوان من العجائب والغرائب ما هو أعظم من ذلك، وما لا يعلمه إلا الله، وقد ذكر الله لنا في كتابه ما هو أعجب من هذا في قصة الغراب الذي دفن صاحبه ليعلِّم ابن آدم كيف يدفن آخاه الذي قتله: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}[المائدة:31]، ولم يقل أحد إن الغراب من المكلفين، كما هو تماما في قصة الكلاب التي دفنت صاحبها وذكرتها لك، ولم يقل أحد أنها مكلفة بدفن من يموت منها.
وصدق الله العظيم إذ يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:43].
رضي الله عن الإمام البخاري وعن أئمة المسلمين.. ونفعنا الله بعلمهم.. اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.. آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) .https://www.youtube.com/watch?v=j67WnlsImLI