المسألة الخامسة : في كون
nindex.php?page=treesubj&link=21135العموم له صيغة حقيقة
ذهب الجمهور إلى أن العموم له صيغة موضوعة له حقيقة ، وهي أسماء الشرط ، والاستفهام ، والموصولات ، والجموع المعرفة تعريف الجنس ، والمضافة ، واسم الجنس ، والنكرة المنفية ، والمفرد ، والمحلى باللام ، ولفظ كل وجميع ونحوها ، وسنذكر إن شاء الله الاستدلال على عموم هذه الصيغ ونحوه ذكرا مفصلا .
قالوا : لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة ; لتعذر جمع الآحاد على المتكلم ، فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة حقيقة ; لأن الغرض من وضع اللغة الإعلام والإفهام .
واحتجوا أيضا : بأن السيد إذا قال لعبده : لا تضرب أحدا ، فهم منه العموم حتى لو ضرب واحدا ، عد مخالفا ، والتبادر دليل الحقيقة ، والنكرة في النفي للعموم حقيقة ، فللعموم صيغة ، وأيضا لم يزل العلماء يستدلون بمثل
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=38والسارق والسارقة فاقطعوا و
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=2الزانية والزاني فاجلدوا وقد كان الصحابة يحتجون عند حدوث الحادثة بمثل الصيغ المذكورة على العموم ، ومنه ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن الحمر الأهلية ، فقال
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338060لم ينزل علي في شأنها إلا هذه الآية الجامعة nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=7فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=8ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وما ثبت أيضا من احتجاج
nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص لما أنكر عليه ترك الغسل من الجنابة ، والعدول إلى
nindex.php?page=treesubj&link=32601التيمم مع شدة البرد ، فقال : سمعت الله يقول
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29ولا تقتلوا أنفسكم فقرر ذلك
[ ص: 345 ] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكم يعد العاد من مثل هذه المواد .
وما أجيب به عن ذلك بأنه إنما بالقرائن جواب ساقط لا يلتفت إليه ولا يعول عليه .
وقال
محمد بن المنتاب من المالكية
nindex.php?page=showalam&ids=16974ومحمد بن شجاع الثلجي من الحنفية : أنه ليس للعموم صيغة تخصه ، وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع في الخصوص ، وهو أقل الجمع إما اثنان ، أو ثلاثة على الخلاف في أقل الجمع ، ولا يقتضي العموم إلا بقرينة .
قال
القاضي في التقريب والإمام في البرهان : يزعمون أن
nindex.php?page=treesubj&link=28371_21135الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الجمع محتملات فيما عداه إذا لم تثبت قرينة تقتضي تعديها عن أقل المراتب . انتهى .
ولا يخفاك أن قولهم : موضوع للخصوص ، مجرد دعوى ليس عليها دليل ، والحجة قائمة عليهم لغة وشرعا وعرفا ، وكل من يفهم لغة العرب ، واستعمالات الشرع لا يخفى عليه هذا .
وقال جماعة من
المرجئة : إن شيئا من الصيغ لا يقتضي العموم بذاته ، ولا مع القرائن ، بل إنما يكون العموم عند إرادة المتكلم ، ونسب هذا إلى
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري .
قال في البرهان : نقل مصنفو المقامات عن
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري والواقفية أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية ، وهذا النقل على الإطلاق زلل ، فإن أحدا لا ينكر إمكان التعبير عن معنى الجمع بترديد ألفاظ تشعر به ، كقول القائل : رأيت القوم واحدا واحدا ، لم يفتني منهم أحد ، وإنما كرر هذه الألفاظ لقطع توهم من يحسبه خصوصا إلى غير ذلك ، وإنما أنكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجمع . انتهى .
[ ص: 346 ] ولا يخفاك أن هذا المذهب مدفوع بمثل ما دفع به الذي قبله ، وبزيادة على ذلك وهو أن إهمال القرائن المقتضية لكونه عاما شاملا عناد ومكابرة .
وقال قوم بالوقف ، ونقله
القاضي في التقريب عن
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري ومعظم المحققين وذهب إليه .
واحتجوا بأنهم سبروا اللغة ووضعها فلم يجدوا في وضع اللغة صيغة دالة على العموم ، سواء وردت مطلقة أو مقيدة بالقرائن ، فإنها لا تشعر بالجمع ، بل تبقى على التردد ، هذا وإن صح النقل فيه فهو مخصوص عندي بالتوابع المؤكدة لمعنى الجمع ، كقول القائل : رأيت القوم أجمعين أكتعين أبصعين ، فلا يظن بذي عقل أن يتوقف فيها . انتهى .
وقد اختلف
الواقفية في محل الوقف على تسعة أقوال :
الأول : وهو المشهور من مذهب أئمتهم ، القول به على الإطلاق من غير تفصيل .
الثاني : أن الوقف إنما هو في الوعد والوعيد ، دون الأمر والنهي ، حكاه
أبو بكر الرازي عن
الكرخي . قال : وربما ظن ذلك من مذهب
أبي حنيفة ; لأنه كان لا يقطع بوعيد أهل الكبائر من المسلمين ، ويجوز أن يغفر الله لهم في الآخرة .
الثالث : القول بصيغ العموم في الوعد والوعيد ، والتوقف فيما عدا ذلك ، وهو قول جمهور
المرجئة .
الرابع : الوقف في الوعيد بالنسبة إلى عصاة هذه الأمة دون غيرها .
الخامس : الوقف في الوعيد دون الوعد ، قال
القاضي : وفرقوا بينهما بما يليق بالشطح والترهات دون الحقائق .
السادس : الفرق بين أن لا يسمع قبل اتصالها به شيئا من أدلة السمع ، وكانت وعدا أو وعيدا ، فيعلم أن المراد بها العموم ، وإن كان قد سمع قبل اتصالها به أدلة الشرع ، وعلم انقسامها إلى العموم والخصوص ، فلا يعلم حينئذ العموم في الأخبار التي اتصلت به ، حكاه
القاضي في مختصر التقريب .
السابع : الوقف في حق من لم يسمع خطاب الشرع منه صلى الله عليه وآله وسلم ،
[ ص: 347 ] وأما من سمع منه وعرف تصرفاته فلا وقف فيه ، كذا حكاه
المازري .
الثامن : التفصيل بين أن يتقيد بضرب من التأكيد ، فيكون للعموم دون ما إذا لم يتقيد .
التاسع : أن لفظة المؤمن والكافر حيثما وقعت في الشرع أفادت العموم دون غيرها ، حكاه
المازري عن بعض المتأخرين .
وقد علمت اندفاع مذهب الوقف على الإطلاق ، بعدم توازن الأدلة التي تمسك بها المختلفون في العموم ، بل ليس بيد غير أهل المذهب الأول شيء مما يصح إطلاق اسم الدليل عليه ، فلا وجه للتوقف ولا مقتضى له .
والحاصل أن كون المذهب الأول هو الحق الذي لا سترة به ولا شبهة فيه ظاهر لكل من يفهم فهما صحيحا ويعقل الحجة ويعرف مقدارها في نفسها ومقدار ما يخالفها .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي كَوْنِ
nindex.php?page=treesubj&link=21135الْعُمُومِ لَهُ صِيغَةٌ حَقِيقَةً
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْعُمُومَ لَهُ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ حَقِيقَةً ، وَهِيَ أَسْمَاءُ الشَّرْطِ ، وَالِاسْتِفْهَامِ ، وَالْمَوْصُولَاتُ ، وَالْجُمُوعُ الْمُعَرَّفَةُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ ، وَالْمُضَافَةُ ، وَاسْمُ الْجِنْسِ ، وَالنَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ ، وَالْمُفْرَدُ ، وَالْمُحَلَّى بِاللَّامِ ، وَلَفْظُ كُلٍّ وَجَمِيعٍ وَنَحْوِهَا ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى عُمُومِ هَذِهِ الصِّيَغِ وَنَحْوِهِ ذِكْرًا مُفَصَّلًا .
قَالُوا : لِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ ; لِتَعَذُّرِ جَمْعِ الْآحَادِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَلْفَاظٌ مَوْضُوعَةٌ حَقِيقَةً ; لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ وَالْإِفْهَامُ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : بِأَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : لَا تَضْرِبْ أَحَدًا ، فُهِمَ مِنْهُ الْعُمُومُ حَتَّى لَوْ ضَرَبَ وَاحِدًا ، عُدَّ مُخَالِفًا ، وَالتَّبَادُرُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ ، وَالنَّكِرَةُ فِي النَّفْيِ لِلْعُمُومِ حَقِيقَةً ، فَلِلْعُمُومِ صِيغَةٌ ، وَأَيْضًا لَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يَسْتَدِلُّونَ بِمِثْلِ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=38وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=2الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَحْتَجُّونَ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ بِمِثْلِ الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْعُمُومِ ، وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ، فَقَالَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338060لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِي شَأْنِهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=7فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=8وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَمَا ثَبَتَ أَيْضًا مِنِ احْتِجَاجِ
nindex.php?page=showalam&ids=59عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ تَرْكُ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَالْعُدُولُ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=32601التَّيَمُّمِ مَعَ شِدَّةِ الْبَرْدِ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فَقَرَّرَ ذَلِكَ
[ ص: 345 ] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، وَكَمْ يَعُدُّ الْعَادُّ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَادِّ .
وَمَا أُجِيبَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا بِالْقَرَائِنِ جَوَابٌ سَاقِطٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْتَابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
nindex.php?page=showalam&ids=16974وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ ، وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصِّيَغِ مَوْضُوعٌ فِي الْخُصُوصِ ، وَهُوَ أَقَلُّ الْجَمْعِ إِمَّا اثْنَانِ ، أَوْ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ ، وَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ إِلَّا بِقَرِينَةٍ .
قَالَ
الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ وَالْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ : يَزْعُمُونَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28371_21135الصِّيَغَ الْمَوْضُوعَةَ لِلْجَمْعِ نُصُوصٌ فِي الْجَمْعِ مُحْتَمِلَاتٌ فِيمَا عَدَاهُ إِذَا لَمْ تَثْبُتْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي تَعَدِّيَهَا عَنْ أَقَلِّ الْمَرَاتِبِ . انْتَهَى .
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ : مَوْضُوعٌ لِلْخُصُوصِ ، مُجَرَّدُ دَعْوَى لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ ، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ لُغَةً وَشَرْعًا وَعُرْفًا ، وَكُلُّ مَنْ يَفْهَمُ لُغَةَ الْعَرَبِ ، وَاسْتِعْمَالَاتِ الشَّرْعِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْمُرْجِئَةِ : إِنَّ شَيْئًا مِنَ الصِّيَغِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِذَاتِهِ ، وَلَا مَعَ الْقَرَائِنِ ، بَلْ إِنَّمَا يَكُونُ الْعُمُومُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=13711أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ .
قَالَ فِي الْبُرْهَانِ : نَقَلَ مُصَنِّفُو الْمَقَامَاتِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=13711أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْوَاقِفِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ لِمَعْنَى الْعُمُومِ صِيغَةً لَفْظِيَّةً ، وَهَذَا النَّقْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ زَلَلٌ ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُنْكِرُ إِمْكَانَ التَّعْبِيرِ عَنْ مَعْنَى الْجَمْعِ بِتَرْدِيدِ أَلْفَاظٍ تُشْعِرُ بِهِ ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ : رَأَيْتُ الْقَوْمَ وَاحِدًا وَاحِدًا ، لَمْ يَفُتْنِي مِنْهُمْ أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِقَطْعِ تَوَهُّمِ مَنْ يَحْسَبُهُ خُصُوصًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ الْوَاقِفِيَّةُ لَفْظَةً وَاحِدَةً مُشْعِرَةً بِمَعْنَى الْجَمْعِ . انْتَهَى .
[ ص: 346 ] وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ مَدْفُوعٌ بِمِثْلِ مَا دُفِعَ بِهِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَبِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ إِهْمَالَ الْقَرَائِنِ الْمُقْتَضِيَةِ لِكَوْنِهِ عَامًّا شَامِلًا عِنَادٌ وَمُكَابَرَةٌ .
وَقَالَ قَوْمٌ بِالْوَقْفِ ، وَنَقَلَهُ
الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=13711أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ وَذَهَبَ إِلَيْهِ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ سَبَرُوا اللُّغَةَ وَوَضْعَهَا فَلَمْ يَجِدُوا فِي وَضْعِ اللُّغَةِ صِيغَةً دَالَّةً عَلَى الْعُمُومِ ، سَوَاءٌ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً بِالْقَرَائِنِ ، فَإِنَّهَا لَا تُشْعِرُ بِالْجَمْعِ ، بَلْ تَبْقَى عَلَى التَّرَدُّدِ ، هَذَا وَإِنْ صَحَّ النَّقْلُ فِيهِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ عِنْدِي بِالتَّوَابِعِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَعْنَى الْجَمْعِ ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ : رَأَيْتُ الْقَوْمَ أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْصَعِينَ ، فَلَا يُظَنُّ بِذِي عَقْلٍ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهَا . انْتَهَى .
وَقَدِ اخْتَلَفَ
الْوَاقِفِيَّةُ فِي مَحَلِّ الْوَقْفِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَئِمَّتِهِمْ ، الْقَوْلُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْوَقْفَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، حَكَاهُ
أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنِ
الْكَرْخِيِّ . قَالَ : وَرُبَّمَا ظُنَّ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ
أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ بِوَعِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُجَوِّزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ .
الثَّالِثُ : الْقَوْلُ بِصِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ
الْمُرْجِئَةِ .
الرَّابِعُ : الْوَقْفُ فِي الْوَعِيدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُصَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا .
الْخَامِسُ : الْوَقْفُ فِي الْوَعِيدِ دُونَ الْوَعْدِ ، قَالَ
الْقَاضِي : وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِمَا يَلِيقُ بِالشَّطْحِ وَالتُّرَّهَاتِ دُونَ الْحَقَائِقِ .
السَّادِسُ : الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ لَا يَسْمَعَ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِهِ شَيْئًا مِنْ أَدِلَّةِ السَّمْعِ ، وَكَانَتْ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا ، فَيَعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعُمُومُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِهِ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ ، وَعَلِمَ انْقِسَامَهَا إِلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ، فَلَا يُعْلَمُ حِينَئِذٍ الْعُمُومُ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي اتَّصَلَتْ بِهِ ، حَكَاهُ
الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ .
السَّابِعُ : الْوَقْفُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ خِطَابَ الشَّرْعِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ،
[ ص: 347 ] وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَعَرَفَ تَصَرُّفَاتِهِ فَلَا وَقْفَ فِيهِ ، كَذَا حَكَاهُ
الْمَازِرِيُّ .
الثَّامِنُ : التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْكِيدِ ، فَيَكُونَ لِلْعُمُومِ دُونَ مَا إِذَا لَمْ يَتَقَيَّدْ .
التَّاسِعُ : أَنَّ لَفْظَةَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ فِي الشَّرْعِ أَفَادَتِ الْعُمُومَ دُونَ غَيْرِهَا ، حَكَاهُ
الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَقَدْ عَلِمْتَ انْدِفَاعَ مَذْهَبِ الْوَقْفِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، بِعَدَمِ تَوَازُنِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُخْتَلِفُونَ فِي الْعُمُومِ ، بَلْ لَيْسَ بِيَدِ غَيْرِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ مِمَّا يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّوَقُّفِ وَلَا مُقْتَضَى لَهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَوْنَ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي لَا سُتْرَةَ بِهِ وَلَا شُبْهَةَ فِيهِ ظَاهِرٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْهَمُ فَهْمًا صَحِيحًا وَيَعْقِلُ الْحُجَّةَ وَيَعْرِفُ مِقْدَارَهَا فِي نَفْسِهَا وَمِقْدَارَ مَا يُخَالِفُهَا .