ولا يكون  القياس   صحيحا إلا بشروط اثني عشر ، لا بد من اعتبارها في الأصل .  
( الأول ) : أن يكون الحكم الذي أريد تعديته إلى الفرع ثابتا في الأصل ، فإنه لو لم يكن ثابتا فيه بأن لم يشرع فيه حكم ابتداء ، أو شرع ونسخ ، لم يمكن بناء الفرع عليه .  
( الثاني ) : أن يكون الحكم الثابت في الأصل شرعيا ، فلو كان عقليا أو لغويا ، لم يصح القياس عليه; لأن بحثنا إنما هو في القياس الشرعي .  
واختلفوا  هل يثبت القياس على النفي الأصلي ، وهو ما كان قبل الشرع ؟  
 فمن قال : إن نفي الحكم الشرعي حكم شرعي ، جوز القياس عليه ، ومن قال : إنه      [ ص: 601 ] ليس بحكم شرعي لم يجوز القياس عليه .  
( الثالث ) : أن يكون الطريق إلى معرفته سمعية; لأن ما لم تكن طريقه سمعية لا يكون حكما شرعيا ، وهذا عند من ينفي التحسين والتقبيح العقليين ، لا عند من يثبتهما .  
( الرابع ) : أن يكون الحكم ثابتا بالنص ، وهو الكتاب أو السنة ، وهل يجوز القياس على الحكم الثابت بمفهوم الموافقة أو المخالفة ، قال  الزركشي     : لم يتعرضوا له ، ويتجه أن يقال : إن قلنا إن حكمهما حكم النطق فواضح ، وإن قلنا : كالقياس فيلحق به انتهى .  
والظاهر : أنه يجوز القياس عليهما عند من أثبتهما; لأنه يثبت بهما الأحكام الشرعية ، كما يثبتهما بالمنطوق .  
وأما ما ثبت بالإجماع ، ففيه وجهان ، وقال الشيخ   أبو إسحاق الشيرازي  وابن السمعاني     : أصحهما الجواز ، وحكاه  ابن برهان  عن جمهور أصحاب   الشافعي     .  
( والثاني ) : عدم الجواز ، ما لم يعرف النص الذي أجمعوا لأجله ، قال  ابن السمعاني     : وهذا ليس بصحيح; لأن الإجماع أصل في إثبات الأحكام ، كالنص ، فإذا جاز القياس على الثابت بالنص ، جاز على الثابت بالإجماع .  
( الخامس ) : أن لا يكون أصل المقيس عليه فرعا لأصل آخر ، وإليه ذهب الجمهور . وخالف في ذلك بعض الحنابلة ،  والمعتزلة   فأجازوه .  
واحتج الجمهور على المنع ، بأن العلة الجامعة بين القياسين إن اتحدت ، كان ذكر الأصل الثاني تطويلا بلا فائدة ، فيستغنى عنه بقياس الفرع الثاني على الأصل الأول ، وإن اختلفت لم ينعقد القياس الثاني ، بعدم اشتراك الأصل والفرع في علة الحكم .  
وقسم الشيخ   أبو إسحاق الشيرازي  هذه المسألة إلى قسمين :  
( أحدهما ) : أن يستنبط من الثابت بالقياس نفس المعنى ، الذي ثبت به ، ويقاس عليه غيره ، قال : وهذا لا خلاف في جوازه .  
 [ ص: 602 ]    ( والثاني ) : أن يستنبط منه معنى غير المعنى الذي قيس به على غيره ، ويقاس غيره عليه ، قال : وهذا فيه وجهان :  
( أحدهما ) : وبه قال  أبو عبد الله البصري     : الجواز .  
( والثاني ) : وبه قال  الكرخي     : المنع ، وهو الذي يصح عندي الآن; لأنه يؤدي إلى إثبات حكم في الفرع بغير علة الأصل ، وذلك لا يجوز ، وكذا صححه في القواطع ولم يذكر   الغزالي  غيره .  
( السادس ) : أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع ، أما لو كان شاملا له ، خرج عن كونه فرعا ، وكان القياس ضائعا; لخلوه عن الفائدة بالاستغناء عنه بدليل الأصل; ولأنه لا يكون جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس .  
( السابع ) : أن يكون الحكم في الأصل متفقا عليه; لأنه لو كان مختلفا فيه احتيج إلى إثباته أولا ، وجوز جماعة القياس على الأصل المختلف فيه; لأن القياس في نفسه لا يشترط الاتفاق عليه ، في جواز التمسك به ، فسقوط ذلك في ركن من أركانه أولى .  
واختلفوا في كيفية الاتفاق على الأصل ، فشرط بعضهم أن يتفق عليه الخصمان فقط ، لينضبط فائدة المناظرة .  
وشرط آخرون أن يتفق عليه الأمة . قال  الزركشي     : والصحيح الأول ، واختار في المنتهى أن المعترض إن كان مقلدا لم يشترط الإجماع ، إذ ليس له منع ما ثبت مذهبا له ، وإن كان مجتهدا اشترط الإجماع; لأنه ليس مقتديا بإمام ، فإذا لم يكن الحكم مجمعا عليه ، ولا منصوصا عليه جاز أن يمنعه .  
( الثامن ) : أن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب ، وذلك إذا اتفقا على إثبات الحكم في الأصل ، ولكنه معلل عند أحدهما بعلة ( وعند الآخر بعلة أخرى ) يصلح كل منهما أن يكون علة ، وهذا يقال له : مركب الأصل ، ( وإن اتفقا على علة الأصل ) لاختلافهم في نفس الوصف ، ولكن منع أحدهما وجودها في الفرع ، وهذا يقال له مركب الوصف; لاختلافهم في نفس الوصف ، هل له وجود في الأصل أم لا ؟  
 [ ص: 603 ] وكلام  الصفي الهندي  يقتضي تخصيص القياس المركب بالأول ، وخالفه   الآمدي ،  وابن الحاجب  وغيرهما ، فجعلوه متناولا للقسمين ، وقد اختلف في اعتبار هذا الشرط ، والجمهور على اعتبار ، وخالفهم جماعة ، فلم يعتبروه ، وقد طول الأصوليون ، والجدليون الكلام على هذا الشرط بما لا طائل تحته .  
( التاسع ) : أن لا نكون متعبدين في ذلك الحكم بالقطع ، فان تعبدنا فيه بالقطع ، لم يجز فيه القياس; لأنه لا يفيد إلا الظن ، وقد ضعف  الإبياري  القول بالمنع ، وقال : بل ما تعبدنا فيه بالعلم جاز أن يثبت بالقياس ، الذي يفيده ، وقد قسم المحققون القياس إلى ما يفيد العلم ، وإلى ما لا يفيده . وقال  ابن دقيق العيد     : في " شرح العنوان " : لعل هذا الشرط مبني على أن دليل ( القياس ظني ، فلو كان قطعيا ، وعلمنا العلة قطعا ، ووجودها في الفرع قطعا ، فقد علمنا الحكم قطعا ، ومن نظر لأن دليل ) الأصل وإن كان قطعيا ، وعلمنا العلة ووجودها في الفرع قطعا فنفس الإلحاق ، وإثبات مثل حكم الأصل للفرع ليس بقطعي .  
وقد تقدم  ابن دقيق العيد  إلى مثل هذا   الفخر الرازي     .  
( العاشر ) : أن لا يكون معدولا به عن قاعدة القياس ، كشهادة  خزيمة  وعدد الركعات ، ومقادير الحدود ، وما يشابه ذلك; لأن إثبات القياس عليه إثبات للحكم مع منافيه ، وهذا هو معنى قول الفقهاء : الخارج عن القياس لا يقاس عليه .  
وممن ذكر هذا الشرط   الفخر الرازي ،   والآمدي ،  وابن الحاجب ،  وغيرهم وأطلق  ابن برهان  أن مذهب أصحاب   الشافعي  جواز القياس على ما عدل به عن سنن القياس . وأما الحنفية وغيرهم فمنعوه ، وكذلك منع منه  الكرخي  إلا بإحدى خلال :  
( إحداها ) : أن يكون ما ورد على خلاف الأصول قد نص على علته .  
 [ ص: 604 ]    ( ثانيتها ) : أن تكون الأمة مجمعة على تعليل ما ورد به الخبر ، وإن اختلفوا في علته .  
( ثالثتها ) : أن يكون الحكم الذي ورد به الخبر موافقا للقياس على بعض الأصول ، وإن كان مخالفا للقياس على أصل آخر .  
( الحادي عشر ) : أن لا يكون حكم الأصل مغلظا ، على خلاف في ذلك .  
( الثاني عشر ) : أن لا يكون الحكم في الفرع ثابتا قبل الأصل; لأن الحكم المستفاد متأخر عن المستفاد منه بالضرورة ، فلو تقدم لزم اجتماع النقيضين ، أو الضدين ، وهو محال .  
هذا حاصل ما ذكروه من الشروط المعتبرة في الأصل .  
وقد ذكر بعض أهل الأصول شروطا ، والحق عدم اعتبارها .  
( فمنها ) : أن يكون الأصل قد انعقد الإجماع على أن حكمه معلل ، ذكر ذلك   بشر المريسي   والشريف المرتضى     .  
( ومنها ) : أن يشترط في الأصل أن لا يكون غير محصور بالعدد ، قال ذلك جماعة ، وخالفهم الجمهور .  
( ومنها ) : الاتفاق على وجود العلة في الأصل ، قاله البعض ، وخالفهم الجمهور .  
( ومنها : تأثير الأصل في كل بوضوح ، ذكره البعض ، وخالفهم الجمهور ) .  
				
						
						
