المسألة العاشرة
قطع وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر بامتناع الشافعي ، وإليه ذهب نسخ الكتاب بالسنة المتواترة في إحدى الروايتين عنه . أحمد بن حنبل
وأجاز ذلك جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ، ومن الفقهاء مالك وأصحاب أبي حنيفة وابن سريج ، واختلف هؤلاء في الوقوع .
والمختار جوازه عقلا ; لما ذكرناه في المسألة المتقدمة .
وأما الوقوع فقد احتج القائلون به بأن " ألا لا وصية لوارث . الوصية للوالدين والأقربين - نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم : "
[1] قالوا : ولا يمكن أن يقال بأن الناسخ للوصية آية الميراث ; لأن الجمع ممكن من حيث إن الميراث لا يمنع من الوصية للأجانب ، وهو ضعيف لما فيه من ، وهو ممتنع على ما يأتي نسخ حكم القرآن المتواتر بخبر الآحاد [2] ، ولأنه لا يلزم من كون الميراث مانعا من الوصية للوارث أن يكون مانعا من الوصية لغير الوارث .
واحتجوا أيضا بأن جلد الزاني الثابت بقوله تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) نسخ بالرجم الثابت بالسنة ، وهو ضعيف لما فيه من نسخ القرآن بآحاد السنة ، وهو ممتنع على ما يأتي [3] ، وفي حق الشيخ والشيخة من جهة أنه أمكن [ ص: 154 ] أن يقال : إن ، وهو ما روي نسخ الجلد بالرجم إنما كان بقرآن نسخ رسمه عمر أنه قال : ( كان فيما أنزل الله : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله ورسوله ) عن
[4] ولا يمكن أن يقال : إن ذلك لم يكن قرآنا بما روي عن عمر أنه قال : ( لولا أنني أخشى أن يقال زاد عمر في القرآن ما ليس منه لكتبت : " الشيخ والشيخة إذا زنيا " على حاشية المصحف ) وذلك يدل على أنه لم يكن قرآنا ; لأنا نقول : غاية قول عمر الدلالة على إخراج ذلك عن المصحف والقرآن لنسخ تلاوته ، وليس فيه دلالة على أنه لم يكن قرآنا ، فإن قيل : ( الشيخ والشيخة ) لم يثبت بالتواتر ، بل بقول عمر ممتنع على ما يأتي ، وسواء كان ذلك قرآنا أو سنة . ونسخ المتواتر بالآحاد
[ ص: 155 ] قلنا : والسنة ، وهو رجم النبي صلى الله عليه وسلم للزاني لم يثبت بالتواتر بل بطريق الآحاد ، وغايته أن الأمة مجمعة على الرجم ، بل هو دليل وجود الناسخ المتواتر ، وليس إحالته على سنة متواترة لم تظهر لنا أولى من إحالته على قرآن متواتر لم يظهر لنا تواتره بسبب نسخ تلاوته . والإجماع ليس بناسخ
[5] وأما النافون لذلك فقد احتجوا بحجج نقلية وعقلية :
أما النقلية فمن خمسة أوجه :
الأول : قوله تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) وصف نبيه بكونه مبينا والناسخ رافع ، والرافع غير البيان .
الثاني : قوله تعالى : ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) أخبر أنه إنما يبدل الآية بالآية لا بالسنة .
[ ص: 156 ] الثالث : أن المشركين عند تبديل الآية مكان آية قالوا : ( إنما أنت مفتر ) فأزال الله تعالى وهمهم بقوله : ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ) وذلك يدل على أن التبديل لا يكون إلا بما نزله روح القدس .
الرابع : قوله تعالى : ( قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) وهو دليل على أن القرآن لا ينسخ بغير القرآن .
الخامس : قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) وذلك يدل على أن الآية لا تنسخ إلا بآية .
وبيانه من وجوه :
الأول : أنه قال : ( نأت بخير منها أو مثلها ) والسنة ليست خيرا من القرآن ولا مثله .
الثاني : أن الله تعالى وصف نفسه بأنه الذي يأتي بخير منها ، وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن لا سنة .
الثالث : وصف البدل بأنه خير أو مثل وكل واحد من الوصفين يدل على أن البدل من جنس المبدل ، أما المثل فظاهر ، وأما ما هو خير ; فلأنه لو قال القائل لغيره : ( لا آخذ منك درهما إلا وآتيك بخير منه ) فإنه يفيد أنه يأتيه بدرهم خير من الأول .
الرابع : قوله تعالى : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) دل على أن الذي يأتي به هو المختص بالقدرة عليه ، وذلك هو القرآن دون غيره .
وأما من جهة المعقول فمن وجهين :
الأول : أن في قوله تعالى : ( السنة إنما وجب اتباعها بالقرآن وما آتاكم الرسول فخذوه ) ، وقوله ( فاتبعوه ) وذلك يدل على أن السنة فرع القرآن ، والفرع لا يرجع على أصله بالإبطال والإسقاط ، كما لا ينسخ القرآن والسنة بالفرع المستنبط منهما وهو القياس .
الثاني : أن القرآن أقوى من السنة ، ودليله من ثلاثة أوجه :
الأول : لمعاذ : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله . قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله ، قدمه في العمل به على السنة ، والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك ، وذلك دليل قوته . قول النبي صلى الله عليه وسلم
الثاني : أنه أقوى من جهة لفظه ; لأنه معجز والسنة ليست معجزة .
[ ص: 157 ] الثالث : أنه أقوى من حكمه حيث اعتبرت عن الجنابة والحيض ، وفى مس مسطوره مطلقا ، والأقوى لا يجوز رفعه بالأضعف . الطهارة في تلاوته
والجواب عن الآية الأولى من ثلاثة أوجه :
الأول : أنه يجب حمل قوله ( لتبين للناس ) على معنى لتظهر للناس ; لكونه أعم من بيان المجمل والعموم لأنه يتناول إظهار كل شيء حتى المنسوخ ، وإظهار المنسوخ أعم من إظهاره بالقرآن .
الثاني : أن نسخ حكم الآية بيان لها فيدخل في قوله : ( لتبين للناس ) وتبين القرآن أعم من تبيينه بالقرآن .
الثالث : أنه وإن لم يكن النسخ بيانا ؛ غير أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بكونه مبينا لا يخرجه عن اتصافه بكونه ناسخا .
وعن الآية الثانية من وجهين :
الأول : أنها ظاهرة في تبديل رسم آية بآية ، النزاع إنما هو في تبديل حكم الآية ، وليس فيه ما يدل على تبديل حكمها بآية أخرى .
الثاني : أن الله تعالى أخبر أنه إذا بدل آية مكان آية قالوا : إنما أنت مفتر ، وليس في ذلك ما يدل على أن تبديل الآية لا يكون إلا بآية ، وذلك كما لو قال القائل لغيره : ( إذا أكلت في السوق سقطت عدالتك ) فإن ذلك لا يدل على أنه لا يأكل إلا في السوق .
وعن قوله : ( قل نزله روح القدس ) أن ذلك لا يدل على امتناع إلا أن تكون السنة لم ينزل بها روح القدس ، وليس كذلك ; إذ السنة من الوحي وإن كانت لا تتلى على ما سبق تقريره . نسخ القرآن بالسنة
وعن الآية الرابعة من وجهين :
الأول أن قوله : ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) أي في تبديل آية مكان آية ، وليس فيه ما يدل على امتناع تبديل حكم الآية بغير الآية .
الثاني : أن النسخ وإن كان بالسنة فهي من الوحي على ما تقدم فلم يكن متبعا إلا ما يوحى إليه به .
وعن الآية الأخيرة من ثلاثة أوجه :
الأول : لا نسلم دلالتها على امتناع نسخ حكم الآية بغير الآية .
قولهم في الوجه الأول : إن السنة ليست خيرا من القرآن ولا مثله .
[ ص: 158 ] قلنا قوله : ( ما ننسخ من آية ) إما أن يراد به نسخ رسمها أو نسخ حكمها ، فإن كان الأول فهو ممتنع فإنه وصف البدل بكونه خيرا منها ، والقرآن خير كله ولا يفضل بعضه على بعض [6] ، وإن كان الثاني فذلك يدل على أن الحكم الناسخ يكون خيرا من الحكم المنسوخ أو مثله .
ونحن نقول به فإنه لا يمتنع أن يكون الحكم الناسخ أصلح في التكليف وأنفع للمكلف .
وأما الوجه الثاني : فلا دلالة فيه لأن السنة إذا كانت ناسخة فالآتي بما هو خير ، إنما هو الله تعالى والرسول مبلغ ، ولا يدل ذلك على أن الناسخ لا يكون إلا قرآنا بل الإتيان بما هو خير أعم من ذلك .
وأما الوجه الثالث : فلا دلالة فيه على لزوم المجانسة بين الآية المنسوخ حكمها وبين ناسخه ; لأنه وصفه بكونه خيرا ، والقرآن لا تفاوت فيه على ما سبق ، فعلم أن المفاضلة والمماثلة إنما هي راجعة إلى الحكم المنسوخ والحكم الناسخ على ما سبق .
وعلى هذا فلا نسلم أنه إذا قال له : " ما آخذ منك درهما إلا وآتيك بخير منه " أنه يدل على المجانسة فإن ما هو خير أعم من الجنس ، فكأنه قال : " آتيك بشيء هو خير مما أخذت منك " والمذكور أولا ، وإن كان هو الآية والضمير في قوله " بخير منها " وإن كان عائدا إليها فلا يلزم منه المجانسة بين المضمر والمظهر .
وأما الوجه الرابع : فنحن قائلون بموجبه ، فإن المتمكن من إزالة الحكم بما هو خير منه إنما هو الله عز وجل .
الوجه الثاني : أن الآية تدل على أنه لا بد في نسخ كل آية من الإتيان بآية هي خير منها أو مثلها ضرورة الإخبار ، ولكن ليس في ذلك دلالة على أن الآية المأتي بها هي الناسخة لإمكان أن يكون بدلا عن الآية الأولى ، وإن كان الناسخ غيرها .
[ ص: 159 ] الثالث : أن ظاهر الآية يتناول نسخ رسم الآية ، والأصل تنزيل اللفظ على حقيقته ، وفي حمله على نسخ الحكم صرفه إلى جهة المجاز ، وهو خلاف الأصل ، والنزاع إنما وقع في لا في نسخ الحكم . نسخ الرسم
وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول من ثلاثة أوجه :
الأول : أن ذلك إنما يمتنع أن لو كانت السنة رافعة لما هي فرع عليه من القرآن ، وليس كذلك بل ما هي فرع عليه غير مرفوع بها وما هو مرفوع بها ليست فرعا عليه .
الثاني : أن ما ذكروه حجة عليهم ، فإن القرآن قد دل على وجوب الأخذ بما يأتي به الرسول ووجوب اتباعه ، فإذا أتى بنسخ حكم الآية ولم يتبع كان على خلاف ما ذكروه .
الثالث : أن السنة ليست رافعة للقرآن وإنما هي رافعة لحكمه ، وحكمه ليس أصلا لها ، فإذا المرتفع ليس هو الأصل وما هو الأصل غير مرتفع .
وعن المعارضة الثانية أن القرآن وإن كان معجزا في نظمه وبلاغته ومتلوا ومحترما فليس فيه ما يدل على أن دلالة كل آية منه أقوى من دلالة غيره من الأدلة ، ولهذا فإنه لو تعارض عام من الكتاب وخاص من السنة المتواترة كانت السنة مقدمة عليه .
وكذلك أيضا ، فإن الدليل العقلي يكون حاكما عليها ، وكذلك الإجماع وكثير من الأدلة على ما يأتي في الترجيحات . لو تعارضت آية ودليل عقلي
وعلى هذا فلا يمتنع . رفع حكم الآية بدليل السنة
كيف وإن السنة الناسخة ليست معارضة ولا نافية لمقتضى الآية ، بل مبينة ومخصصة على ما سبق .
[7]