[ ص: 219 ] المسألة الثانية عشرة
اختلفوا في . النافي هل عليه دليل أو لا ؟
منهم من قال : لا دليل عليه ، وسواء كان ذلك من القضايا العقلية أو الشرعية .
ومنهم من أوجب ذلك عليه في الموضعين .
ومنهم من أوجبه عليه في القضايا العقلية دون الشرعية .
والمختار إنما هو التفصيل ، وهو أن النافي إما أن يكون نافيا بمعنى ادعائه عدم علمه بذلك وظنه ، أو مدعيا للعلم أو الظن بالنفي .
فإن كان الأول : فالجاهل لا يطالب بالدليل على جهله ، ولا يلزمه ذلك ، كما لا يطالب على دعواه أني لست أجد ألما ولا جوعا ولا حرا ولا بردا ، إلى غير ذلك .
وإن كان الثاني : فلا يخلو إما أن يدعي العلم بنفي ما نفاه ضرورة ، أو لا بطريق الضرورة .
فإن كان الأول : فلا دليل عليه أيضا ; لأنه إن كان صادقا في دعوى الضرورة ، فالضروري لا يطالب بالدليل عليه ، وإن لم يكن صادقا في دعواه الضرورة فلا يطالب بالدليل عليه أيضا ، فإنه ما ادعى حصوله له عن نظر ، ويكفي المنع في انقطاعه حيث إنه لا يقدر الضرورة في ذلك ، والنظر غير مدع له ، وإن ادعى العلم بنفيه لا بطريق الضرورة فلا يخلو : إما أن لا يكون قد حصل له بطريق مفض إليه ، أو يكون بطريق مفض إليه ، لا جائز أن يقال بالأول ; لأن حصول علم غير ضروري من غير طريق يفضي إليه محال .
وإن كان الثاني : فلا بد عند الدعوى والمطالبة بدليلها من ذكره وكشفه لينظر فيه ، وإلا كان قد كتم علما نافعا مست الحاجة إلى إظهاره ، ودخل تحت قوله عليه السلام : " " ولأنه لا فرق في ذلك في دعوى الإثبات والنفي من كتم علما نافعا فقد تبوأ مقعده من النار [1] ، وقد وجب على مدعي الإثبات ذكر الدليل ، فكذلك في دعوى النفي ، كيف وإن الإجماع منعقد على أن من ادعى الوحدانية لله تعالى وقدمه [2] [ ص: 220 ] أنه يجب عليه إقامة الدليل ، وإن كان حاصل دعوى الوحدانية نفي الشريك وحاصل دعوى القدم نفي الحدوث والأولية ، ولهذا نبه الله تعالى على نفي آلهة غير الله على الدليل في قوله تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) الآية .
فإن قيل : فماذا تقولون فيما إذا ادعى رجل أنه نبي ولم تقم على دعواه بينة ، هل يلزم المنكرين لنبوته إقامة الدليل على أنه ليس بنبي أو لا يلزم .
وكذلك من أنكر وجوب صلاة سادسة أو صوم شوال أو المدعى عليه بحق إذا أنكر ما ادعي عليه به ، هل يلزمه إقامة الدليل على ما نفاه أو لا ؟ إن قلتم بالأول فهو خلاف الإجماع ، وإن قلتم بالثاني مع كونه نافيا في قضية غير ضرورية فقد سلمتم محل النزاع .
قلنا : النفي في جميع هذه الصور لم يخل عن دليل يدل على النفي ، غير أنه قد يكتفى بظهوره عن ذكره ، وهو البقاء على النفي الأصلي واستصحاب الحال مع عدم القاطع له ، وهو ما يدل على النبوة ، وما يدل على وجوب صلاة سادسة ، وعلى وجوب صوم شوال وشغل الذمة .
وإذا قيل : إن النافي عليه دليل ، فالدليل المساعد في ذلك إما نص وارد من الشارع يدل على النفي أو إجماع من الأمة ، وإما التمسك باستصحاب النفي الأصلي ، وعدم الدليل المغير القاطع ، وإما الاستدلال بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم .
وهل يمكن الاستدلال على النفي بالقياس الشرعي ؟ اختلفوا فيه [3] بناء على الاختلاف في جواز تخصيص العلة ، ولا فرق في ذلك بين قياس العلة والدلالة ، والقياس في معنى الأصل .