وقد ذكرنا فيما تقدم ما في كتابنا هذا قول الله عز وجل : ( الحج أشهر معلومات ) ، وما روي في ذلك مما يراد به من الشهور ، ويتلو ذلك من الآية قول الله عز وجل : ( فمن فرض فيهن الحج ) وكان يعني قوله جل وتعالى : ( فمن فرض فيهن الحج ) أي من أوجب على نفسه الحج فيهن . فاحتمل أن يكون قوله جل وتعالى ( فمن فرض فيهن الحج ) ، أي من أوجب على نفسه أن يحج فيهن ، كان ذلك الإيجاب فيهن أو قبلهن . لأن الحج الذي يوجبه على نفسه لا يكون إلا فيهن . واحتمل أن يكون أراد بمن أوجب على نفسه الحج فيهن ، فيكون عني الإيجاب والحج جميعا فيهن . وكان معنى قوله عز وجل : فيهن أي : في بعضهن ، لأن الإيجاب الذي أراد عز وجل بقوله : فيهن إن كان الحج ، فإن الحج إنما يكون في بعض أحدهن . وإن كان هو الإحرام فإنما يوجبه على نفسه أيضا في ساعة من إحداهن فيلزمه ذلك . ولم نر أحدا من أهل العلم ذهب إلى أن المراد بقوله عز وجل : فيهن أي : في جميعهن ، ولا أوجب على أحد ممن أراد الحج أن يحرم في أول يوم من شوال حتى يكون في شهور الحج كلها محرما بالحج .
[ ص: 18 ] فإن كان المراد بالآية ما ذكرناه من التأويل الأول من هذين التأويلين ، وإنه على أن يكون من أوجب على نفسه أن يحج فيهن كان ذلك الإيجاب فيهن أو قبلهن . ثبت بذلك أن للناس جميعا أن يحرموا بالحج في أشهر الحج وفيما قبلهن ، ثم لا يكون الحج الذي يوجبونه إلا في الوقت الذي يقضى فيه الحج من شهور الحج .
وإن كان المراد بالآية ما ذكرنا من التأويل الثاني ، وإنه على أن يكون إيجاب الحج وقضاء الحج فيهن ، لم يكن ذلك مانعا من الإحرام به قبلهن . لأنا قد وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل للإحرام بالحج مواقيت معلومات ذكرها وسماها ، وسمى أهلها والمارين بها من غير أهلها . وروي عنه في ذلك ما :
1134 - قد حثنا يونس قالا حدثنا والربيع بن سليمان المرادي ، قال حدثنا يحيى بن حسان ، وهيب بن خالد عن وحماد بن زيد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن طاوس ، ابن عباس : المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ، ولأهل اليمن يلملم . ثم قال : هي لهم ولكل آت أتى عليهن من غيرهن . فمن كان أهله دون الميقات ، فمن حيث ينشئ حتى يأتي ذلك على أهل مكة . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل
1135 - وما قد حدثنا قال حدثنا علي بن معبد ، كثير بن هشام ، قال حدثنا جعفر بن برقان قال : عن امرأة حاجة مرت عمرو بن دينار بالمدينة ، فأتت ذا الحليفة وهي حائض فقال لها : كريها ، لو تقدمت إلى الجحفة فأحرمت منها . سألت
فقال عمرو : حدثنا ولا يحسبن فينا أحد أصدق من طاوس ، قال : قال طاوس ، وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر مثله . غير قوله : " فمن كان أهله " إلى آخر الحديث ، فإنه لم يذكر ذلك . ابن عباس :
1136 - وما قد حدثنا قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، وهيب بن جرير ، قال حدثنا عن شعبة عن عبد الله بن دينار ، عن نافع ابن عمر المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ، ولأهل اليمن يلملم . عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 19 ] أنه وقت لأهل
1137 - وما قد حدثنا علي بن شيبة ، قال حدثنا قال حدثنا أبو نعيم ، سفيان عن قال : سمعت عبد الله بن دينار ، يقول : وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مثله . ولم يذكر في إسناده ابن عمر نافعا .
فلم يكن توقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس هذه المواقيت مانعا لهم من الإحرام بالحج قبلها ، لأن من قبل هذه المواقيت أو بعدها لزمه الحج باتفاقهم جميعا ، لا اختلاف بينهم فيه علمناه . أحرم بالحج في أشهر الحج
وإن كان المقصود إليه بتوقيتها هو أن يكون الإحرام منها غير متقدم لها ولا متأخر عنها . فلما كانت المواقيت التي ذكرنا للإحرام لا يمنع من الإحرام بالحج قبلها ولا بعدها وإن كان الذي أحرم به بعدها مسيئا ، كان الأوقات أيضا للإحرام لا يمنع من الاحرام بالحج قبلها .
فقال قائل : فقد روي جابر أنه سئل : أيحرم الرجل بالحج في غير أشهر الحج ؟ قال : لا . ولم نجد في ذلك عن أحد من الصحابة ما يخالفه . عن
قيل له : لكنا قد وجدنا عن رضي الله عنه ما يدل على خلاف ما قال علي بن أبي طالب جابر في هذا .
1138 - حدثنا قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عبد الله بن سلمة المرادي ، قال رضي الله عنه قوله : ( لعلي وأتموا الحج والعمرة لله ) ؟ قال : تحرم من دويرة أهلك . قال رجل
فهذا علي رضي الله عنه قد قال هذا القول جوابا لقائله عن تأويل الآية التي سأله عن تأويلها ، وأخبره أن الإتمام للحج والعمرة المذكور فيهما من حيث ينشئهما الذي يريدهما . وقد كان هذا الجواب منه ، وللمسلمين بلدان مسافة ما بينها وبين مكة أكثر من .
[ ص: 20 ] مدة شهور الحج . ومعلوم أن المحرم بالحج منها الذي يوافي مكة في إحرامه بالحج منها لم يكن إحرامه ذلك إلا قبل شهور الحج بمدة طويلة . رضي الله عنه فجمع الناس جميعا في جوابه الذي حكيناه عنه . ولم يفرق بين بعيد الدار منهم من وعلي مكة ، ولا بين قريب الدار منهم منها . فدل ذلك على إطلاقه للناس الإحرام بالحج قبل أشهر الحج . وكان ذلك عندنا أولى من قول جابر الذي ذكرنا . لأن عليا أخبر أن ذلك تأويل آية أخرى من كتاب الله عز وجل ، ولم يرو عن جابر ، ولا عمن سواه وسوى علي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل تلك الآية غير أن الذي رويناه عن علي تأويلها ، وجابر فإنما روي لنا عنه في ذلك قوله من رأيه وكان القياس على ما قال علي من ذلك أدل لما قد ذكرناه من المواقيت فيما تقدم منا في هذا الباب . وهذا الذي ذكرناه من مذهب علي في الإحرام بالحج قبل شهور الحج ، قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد . حدثنا بذلك من قولهم محمد بن العباس عن عن علي بن معبد ، محمد عن عن أبي يوسف ، أبي حنيفة ؛ وأبي يوسف ، ومحمد . حدثنا بذلك من قولهم محمد بن العباس عن عن علي بن معبد ، محمد عن عن أبي يوسف ، وعن أبي حنيفة ؛ علي ، عن محمد عن وعن أبي يوسف ؛ علي عن محمد .
وقد كانت طائفة من أهل العلم تقول : إن وهذا القول فغير صحيح عندنا من جهة التأويل ، ولا من جهة الآثار ، ولا من جهة القياس . لأن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج يوجب على المحرم به عمرة ، ولا يوجب عليه حجة ، المحرم بالحج في غير أشهر الحج لا يخلو من أحد وجهين :
إما أن يكون يلزمه الإحرام بالحج كما أحرم به ، أو يكون لا يلزمه به الحج الذي أحرم به ، فيكون كمن لم يحرم به . ويكون لما لم يدخل فيه بإحرامه غير داخل في غيره . كرجل أحرم بالظهر قبل زوال الشمس فلا يكون بذلك داخلا فيها ، ولا في غيرها .
فإن قال قائل : إنما رددت إحرامه بالحج قبل أشهر الحج إلى أن جعلته عمرة . لأني رأيت الذي يفوته الحج قد رد إحرامه بالحج إلى ! عمرة
فقيل له : تحل بعمرة وعليك الحج من قابل . فرد إحرامه ذلك من الحج إلى العمرة لفوت الحج إياه . قال : فكذلك رددت المحرم بالحج في غير أشهر الحج إلى العمرة لتقدمه في إحرامه وقت الحج . قيل له : وهل أعدنا إحرام الذي فاته الحج بالحج الذي كان أحرم به إلى أن جعلناه ؟ إنما أمرناه أن يفعل ما يفعل المعتمر من الطواف بالبيت ، والسعي بين عمرة الصفا والمروة حتى يحل من حرمة ما هو فيه من الحج . وذلك ما هو يمكنه أن يفعله من الحج .
[ ص: 21 ] الذي كان دخل فيه ، لا ما سواه مما قد فاته منه . وكيف يكون معتمرا بغير تلبية يستأنفها ويدخل بها في العمرة ؟ ألا ترى أنه لو لم يكن بعد أن فاته الحج حتى طاف بالبيت ، وسعى بين الصفا والمروة ، وحلق أنه قد حل ، وقضى ما عليه مما يوجبه فوات الحج عنه إلا ما يوجبه عليه مع ذلك من يوجبه عليه ما استيسر من الهدي . وسنذكر ذلك وأقوال أهل العلم فيه ، وما يدخل لبعضهم على بعض فيه ، وما يصح في ذلك بآثار أو بقياس في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله .
وإنما قيل له : يحل بعمرة . أي يحل بمثل ما يحل به المعتمر . وإن كان ما يفعله من ذلك للحج الذي قد فاته ، لا لعمرة يأتنفها . أولا ترى أن من أحرم بعمرة أمر أن يلبي لها إلى وقت ما . فطائفة من أهل العلم تقول : إلى استلام الحجر . وطائفة منهم تقول : إلى أن يرى عروش مكة .
وسنذكر ذلك ، وما روي فيه ، وما يوجبه القياس فيه في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله .