وأما قوله عز وجل : ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) فقد اختلف أهل العلم في المراد بذلك ، فقالت طائفة منهم : ليس ذلك على الوجوب ، ولكنه على الندب على الخير والتقرب إلى الله تعالى بمعونة المكاتبين على ما يعتقون به وممن قال ذلك ، أبو حنيفة ومالك ، والثوري ، ، وزفر ، وأبو يوسف ومحمد في آخرين سواهم ، وقالوا : ليس ذلك الذي أمر به وحض عليه مما ذكر في هذه الآية مقصودا إلى المكاتبة دون ما سواها من مال المكاتبين ، ولكنه عليها وعلى ما سواها من أموال المكاتبين ، فما أتاه المكاتبون مكاتبيهم من ذلك فقد أصابوا به ما أمروا به في هذه الآية .
وقالت طائفة : على المولى أن يضع عن مكاتبه شيئا من مكاتبته التي كاتبه عليها ، وهو مأخوذ بذلك ، محكوم به عليه غير مترخص له في تركه وممن ذهب إلى ذلك وذهبوا إلى أن الشافعي وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) على الوجوب والحتم ، لا على الندب والحض . تأويل قوله عز وجل : (
وقالت طائفة مثل ذلك ، غير أنهم جعلوا المأمور بوضعه وإتيانه المكاتبين في هذه الآية ربع ما كوتبوا عليه ، فأكثر من ذلك .
ولما اختلفوا في ذلك ، ولم يكن في الآية ما يدل على ما اختلفوا فيه ، وكانت محتملة لما تأولها كل واحد منهم عليه ، نظرنا فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من السنن المأثورة عنه ، هل فيه ما يدل على شيء من ذلك أم لا ؟ فوجدنا يونس :
2058 - قد حدثنا ، قال حدثنا ، قال : أخبرني رجال من أهل العلم [ ص: 466 ] منهم ابن وهب ، يونس بن يزيد والليث ، عن ، عن عروة ، ابن شهاب ، قالت : جاءت عائشة إلى ، فقالت : يا بريرة ، إني قد كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية ، فأعينيني ولم تكن قضت من كتابتها شيئا ، فقالت لها عائشة : ارجعي إلى أهلك ، فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا ويكون ولاؤك لي ، فعلت ، فذهبت إلى أهلها ، فعرضت ذلك عليهم ، فأبوا وقالوا : إن شاءت أن نحتسب عليك فلتفعل ، ويكون ولاؤك لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا يمنعك ذلك منها ، ابتاعي واعتقي ، فإنما الولاء لمن أعتق . عائشة
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فما بال أناس يشترطون شروطا ؟ من شرط شرطا ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق . عن
2059 - حدثنا يونس ، قال حدثنا ، أن ابن وهب ، أخبره ، عن مالكا عن أبيه ، عن هشام ، ، أنها قالت : عائشة إلى بريرة ، فقالت : إني كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية فقالت عائشة : إن أحب أهلك أن أعدها لهم ، ويكون لي ولاؤك ، فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها ، فقالت لهم ذلك ، فأبوا عليها ، فجاءت من عند أهلها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، فقالت : إني قد عرضت عليهم ذلك فأبوا على أن يكون الولاء لهم فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها ، فأخبرته عائشة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذيها واشترطي الولاء لهم ، فإنما الولاء لمن أعتق . عائشة
ففعلت ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فما بال قوم يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، ما كان [ ص: 467 ] من شروط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، إنما الولاء لمن أعتق . عائشة جاءت
فوجدنا في هذين الحديثين ما يدل على ما ذهب إليه الذين تأولوا قوله عز وجل : ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) على الحض والندب ، لا على الوجوب والحتم ، أن لا ترى إلى قول بريرة إني كاتبت أهلي عل تسع أواق ، في كل عام أوقية ، فأعينيني ، ولم تكن قضت من كتابتها شيئا ، وقول لعائشة : لها : ارجعي إلى أهلك ، فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا أو أعدها لهم ، ويكون ولاؤك لي ، فعلت ، وذكر عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكار ذلك عليها ، وأنه لو كان واجبا على أهل بريرة وضع شيء مما كاتبوها عليه عنها ، إذا لما بذلت ذلك عائشة لهم ، ولأنكره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها لو بذلته ، ولقال لها : ولم تدفعي إليهم ما لا يجب لهم عليها ، وما قد أوجب الله عز وجل لهم عليهم إسقاطه عنها ؟ فثبت بما ذكرنا بهذه السنة التي روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى ، ما ذهبت إليه الطائفة التي ذكرنا في تأويل قوله : ( عائشة وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) على الحض والندب ، لا على الوجوب .
وفي هذين الحديثين ما دل على أن المكاتب لا يعتق بعقد المكاتبة ، وأنه إنما يعتق بحال ثابتة تطرأ على المكاتب .