عمرة الحديبية
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منصرفه من غزوة بني المصطلق رمضان وشوالا، وخرج في ذي القعدة معتمرا، فاستنفر الأعراب الذين حول المدينة ، فأبطأ عنه أكثرهم.
وساق معه الهدي، وأحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعمرة، ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب فلما بلغ خروجه قريشا خرج جمعهم صادين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد الحرام ودخول مكة وأنه إن قاتلهم قاتلوا دون ذلك، وقدموا في خيل إلى خالد بن الوليد كراع الغميم، فورد الخبر بذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بعسفان، فسلك طريقا يخرج منه في ظهورهم وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة ، وكان دليله فيه رجلا من أسلم فلما بلغ ذلك خيل قريش التي مع خالد جرت إلى قريش تعلمهم بذلك.
ولما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية بركت ناقته - صلى الله عليه وسلم - فقال الناس: خلأت خلأت، فقال النبي عليه السلام: ما خلأت، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها، ثم نزل - صلى الله عليه وسلم - هنالك، فقيل: يا رسول الله ليس بهذا الوادي ماء، فأخرج عليه السلام سهما من كنانته، فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه، فجاش الماء الرواء حتى كفى جميع أهل الجيش. وقيل إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب بن عمير الأسلمي وهو سائق بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ، وقيل: نزل بالسهم في القليب [ ص: 193 ] . البراء بن عازب
ثم جرت الرسل والسفراء بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين كفار قريش ، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاءه سهيل بن عمرو العامري، فقاضاه على أن ينصرف عليه السلام عامه ذلك، فإذا كان من قابل أتى معتمرا ودخل هو وأصحابه مكة بلا سلاح حاشا السيوف في قربها فيقيم بها ثلاثا ويخرج. وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا، على أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما، من رجل أو امرأة رد إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين.
فعظم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجا، فقال لأصحابه: اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه، فأنس الناس إلى قوله بعد نفار منهم.
وأبى أن يكتب في صدر صحيفة الصلح من سهيل بن عمرو محمد رسول الله وقال له: لو صدقناك بذلك ما دفعناك عما تريد، ولا بد أن يكتب: باسمك اللهم. فقال - وكان كاتب صحيفة الصلح - امح يا لعلي علي، واكتب باسمك اللهم. وأبى علي أن يمحو بيده "رسول الله" فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضه علي فأشار إليه، فمحاه - صلى الله عليه وسلم - بيده، وأمره أن يكتب: من محمد بن عبد الله .
وأتى يومئذ بأثر كتاب الصلح، وهو يرسف في قيوده، فرده - صلى الله عليه وسلم - على أبيه، فعظم ذلك على المسلمين، فأخبرهم - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أبو جندل بن سهيل أبا جندل أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث إلى عثمان بن عفان مكة رسولا، فجاء خبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 194 ] حينئذ المسلمين للمبايعة على الحرب والقتال لأهل مكة . وروي أنه بايعهم على أن لا يفروا. وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة التي أخبر الله عز وجل أنه رضي عن المبايعين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحتها، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم لا يدخلون النار. وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيمينه على شماله [ وقال: هذه عن لعثمان عثمان ] فهو كمن شهدها. وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب ، [ ص: 192 ] وجميعهم نحو ألف وأربعمائة، وقيل ألف وخمسمائة.
ذكر ، عن وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد، ، قال: أول من بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الشعبي الحديبية أبو سنان الأسدي. وذكر ابن هشام عن . كانت وكيع قريش قد جاء منهم نحو سبعين أو ثمانين رجلا للإيقاع بالمسلمين وانتهاز الفرصة في أطرافهم، ففطن المسلمون لهم فخرجوا، فأخذوهم أسرى. وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح. فأطلقهم رسول الله، فهم الذين يسمون العتقاء، وإليهم ينسب العتقيون فيم يزعمون، ومنهم معاوية وأبوه فيما ذكروا.
فلما تم الصلح بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أهل مكة الذي تولى عقده لهم على ما ذكروا، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن ينحروا ويحلوا. ففعلوا بعد توقف كان بينهم أغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عليه السلام: سهيل بن عمرو لو نحرت لنحروا. فنحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديه، فنحروا بنحره. وحلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه، ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة. قيل إن الذي حلق رأسه - صلى الله عليه وسلم - يومئذ خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي.
ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، فأتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي حليف لبني زهرة هاربا من مكة مسلما، وكان ممن حبس بمكة مع المسلمين، فبعث فيه الأزهر بن [ عبد ] عوف عم عبد الرحمن بن عوف والأخنس بن شريق الثقفي رجلا [ ص: 195 ] من بني عامر بن لؤي ومولى لهم، فأتيا النبي عليه السلام، فأسلمه إليهما على ما عقد في الصلح. فاحتملاه، فلما صاروا بذي الحليفة قال أبو بصير لأحد الرجلين: أرى سيفك هذا سيفا جيدا فأرنيه، فلما أراه إياه ضرب [ به ] العامري فقتله، وفر المولى فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا رجل مذعور ولقد أصاب هذا ذعر. فلما وصل إليه أخبره بما وقع. وقال: غدر بنا وبينما هو يكلمه إذ وصل أبو بصير، فقال: يا رسول الله قد وفت ذمتك وأطلقني الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلمه مسعر حرب لو كان له رجال، أو قال أصحاب. فعلم أبو بصير أنه سيرده فخرج حتى أتى سيف البحر ، موضعا يقال له العيص من ناحية ذي المروة على طريق قريش إلى الشام ، فجعل يقطع على رفاقهم واستضاف إليه قوما من المسلمين الفارين عن قريش ، منهم فجعلوا لا يتركون أبو جندل بن سهيل، لقريش عيرا ولا ميرة ولا مارا إلا قطعوا بهم. فكتبت في ذلك قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا نرى أن تضمهم إليك إلى المدينة ، فقد آذونا.
وأنزل الله تعالى بعد ذلك القرآن بفسخ الشرط المذكور في رد النساء. فمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ردهن، ثم نزلت سورة براءة. فنسخ ذلك كله، ورد على كل ذي عهد عهده وأن يمهلوا أربعة أشهر، ومن لم يستقم على عهده لا يستقام له. وهاجرت ، فأتى أخواها: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط عمارة والوليد فيها، ليردوها، فمنع الله عز وجل من رد النساء المؤمنات إلى الكفار إذا امتحن فوجدن مؤمنات. وأخبر أن ذلك [ ص: 196 ] لا يحل. وأمر المؤمنين أيضا أن لا يمسكوا بعصم الكوافر، ولا ينكحوا المشركات، يعني الوثنيات، حتى يؤمن.