[ ص: 896 ] فأما المسألة الأولى وهي  موت الأبوين ، أو أحدهما      .  
فاختلف فيها على ثلاثة أقوال :  
أحدها : أنه لا يصير بذلك مسلما ، بل هو على دينه ، وهذا قول الجمهور ، وربما ادعى فيه أنه إجماع معلوم متيقن ، لأنا نعلم أن أهل الذمة لم يزالوا يموتون ، ويخلفون أولادا صغارا ، ولا نعرف قط أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحدا من الخلفاء الراشدين بعده ، ولا من بعدهم من الأئمة حكموا بإسلام أولاد الكفار بموت آبائهم ، ولا نعرف أن ذلك وقع في الإسلام مع امتناع إهمال هذا الأمر ، وإضاعته عليهم ، وهم أحرص الناس على الزيادة في الإسلام والنقصان من الكفر ، وهذا مذهب  مالك  ،  وأبي حنيفة  ،   والشافعي  ،  وأحمد     - في إحدى الروايتين عنه - اختارها شيخنا ، رحمه الله .  
الثاني : أنه يحكم بإسلام الأطفال بموت الأبوين ، أو أحدهما ، سواء ماتا في دار الحرب ، أو في دار الإسلام ، وهذا قول في مذهب  أحمد  ، اختاره بعض أصحابه ، وهو معلوم الفساد بيقين لما سنذكره .  
والقول الثالث : أنه يحكم بإسلامهم إن مات الأبوان ، أو أحدهما في دار الإسلام ، ولا يحكم بإسلامهم إن ماتا في دار الحرب ، وهذا هو المنصوص عن  أحمد  ، وهو اختيار عامة أصحابه ، واحتجوا على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "  كل مولود يولد على الفطرة : فأبواه يهودانه      [ ص: 897 ] وينصرانه ويمجسانه     " متفق عليه .  
قالوا : فجعل كفره بفعل أبويه ، فإذا مات أحدهما انقطعت التبعية ، فوجب إبقاؤه على الفطرة التي ولد عليها .  
قالوا : ولأن المسألة مفروضة فيمن مات أبواه في دار الإسلام ، وقضية الدار الحكم بإسلام أهلها ، ولذلك حكمنا بإسلام لقيطها ، وإنما ثبت الكفر للطفل الذي له أبوان ، تغليبا لتبعية الأبوين على حكم الدار ، فإذا عدما ، أو أحدهما وجب إبقاؤه على حكم الدار ، لانقطاع تبعيته للكافر .  
قالوا : ومما يوضح ذلك أن  الطفل يصير مسلما - تبعا لإسلام أبيه      - فكذلك إنما صار كافرا ، تبعا لكفر أبيه ، فإذا مات الأب زال من يتبعه في كفره ، فكان الإسلام أولى به لثلاثة أوجه :  
أحدها : أنه مقتضى الفطرة الأصلية التي فطر الله عليها عباده ، وإنما عارضها فعل الأبوين ، وقد زال العارض ، فعمل المقتضى عمله .  
الثاني : أن الدار دار الإسلام ، ولو اختلط فيها ولد الكافر بولد المسلم - على وجه لا يتميزان - حكمنا بإسلامهما تغليبا للدار ، ولو وجد فيها لقيط في محلة الكفار لا يعرف له أب حكمنا بإسلامه تغليبا للدار ، وإنما عارض الدار قوة تبعية الأبوين ، وقد زالت بالموت ، فعمل مقتضى الدار عمله .  
الثالث : أنه لو  سبي الطفل منفردا عن أبويه   كان مسلما عند الأئمة      [ ص: 898 ] الأربعة ، وغيرهم ، بل ولو  سبي مع أحد أبويه   لكان مسلما في أصح الروايتين ، بل أصح القولين أنه يحكم بإسلامه ، ولو  سبي معهما   ، وهو مذهب   الأوزاعي  ، وأهل  الشام   ، وإحدى الروايتين عن  أحمد  ، فإذا حكم بإسلامه في بعض هذه الصور اتفاقا ، وفي بعضهما بالدليل الصحيح ، كما سنذكره - مع تحقق وجود الأبوين ، وإمكان عوده إلى تبعيتهما - فلأن نحكم بإسلامه مع تحقق عدم الأبوين ، واستحالة تبعيتهما أولى وأحرى .  
وسر المسألة : أنه تبع لهما في الإسلام ، والكفر ، فإذا عدما زالت تبعيته ، وكانت الفطرة الأولى أولى به .  
يوضحه أنه لو  مات أقاربه جميعا ، ورباه الأجانب من الكفار   ، فإنه لا يجوز جعله كافرا ، إذ فيه إخراج عن الفطرة التي فطر الله عليها خلقه بلا موجب ، وهذا ممتنع إذ يتضمن إدخال من فطر على التوحيد في الكفر من غير تبعية لأحد من أقاربه وهذا في غاية الفساد ، فإذا عدم الأبوان لم تكن الولاية على الطفل لغيرهما من أقاربه ، كما لا تثبت على أطفال المسلمين ، بل تكون الولاية عليه للمسلمين ، وحينئذ فيكون محكوما بإسلامه كالمسبي بدون أبويه ، وأولى .  
فإن قيل : فهل تورثونه من الميت منهما ؟ قلنا : نعم ، نورثه .  
نقله  الحربي  ، فقال : " وكذلك  من مات من الأبوين على كفره قسم له - يعني للطفل - الميراث   ، وكان مسلما بموت من مات منهما " وذلك      [ ص: 899 ] كاف ؛ لأن إسلامه إنما يثبت بموت أبيه الذي استحق به الميراث ، فلم يتقدم الإسلام المانع عن الميراث على سبب استحقاقه ، ولأن الحرية المعلقة بالموت لا توجب الميراث فيما إذا  قال سيد لعبد له : إذا مات أبوك فأنت حر ، فمات أبوه   ، فإنه يعتق ولا يرث ، فيجب أن يكون الإسلام المعلق بالموت لا يمنع الميراث ، فهناك موجب الميراث فلم يوجبه ، وهنا مانع الميراث علق بالموت فلم يمنعه .  
وأيضا فكونه " وارثا " أمر ثابت له قبل الموت ، ولهذا يمنع المريض من التصرف في الزائد على الثلث من ماله ، فبالموت عمل المقتضى المتقدم لأخذ المال عمله ، وهو البعضية والبنوة ، وهذا بخلاف الإسلام ، فإنه لم يكن ثابتا له قبل الموت ، بل كان كافرا حكما ، وإنما تجدد له الإسلام بموت الأب ، وهناك لم يتجدد كونه وارثا بموت الأب ، وإنما تجدد بالموت انتقال التركة إليه وهذا ظاهر جدا .  
فإن قيل : فما تقولون لو  مات أبوه الكافر وهو حمل ، هل يرثه   ؟ قلنا : لا يرثه ، لأنا نحكم بإسلامه بمجرد موته قبل الوضع ، نص على هذا  أحمد  ، فيسبق الإسلام المانع من الميراث لاستحقاق الميراث ، وهذا بناء على أنه لا يرث المسلم الكافر ، وأما على القول الذي اختاره شيخنا فإنه يرثه ، وكذلك لو كان الحمل من غيره ، فأسلمت أمه قبل وضعه ، بأن يموت الذمي ، ويترك امرأة أخيه حاملا من أخيه الذمي ، فتسلم أمه قبل وضعه ، فنحكم بإسلامه قبل استحقاقه الميراث .  
فإن قيل : فيلزمكم أن تحكموا بإسلام أولاد الزنا من أهل الذمة ، لانقطاع أنسابهم من آبائهم ، قيل : قد التزمه أصحاب هذا القول ، وحكموا      [ ص: 900 ] بإسلامهم طردا لهذه القاعدة ، وهذا ليس بجيد ، فإن  من انقطع نسبه من جهة أبيه قامت أمه مقام أبيه في التعصيب   ، ولهذا تكون أمه وعصباتها عصبة له ، يرثون منه كما يرث الأب وعصباته ، لانقطاع نسبه من جهة الأب ، ويلزمهم على هذا أن يحكموا بإسلام ولد الذمي إذا لاعن عليه ، لانقطاع نسبه من جهة الأب ، وهذا لا نعلم قائله من السلف .  
وأما إذا  اختلط أولاد الذمة بأولاد المسلمين ، ولم يتميزوا   ، فإنه يحكم بإسلامهم ، نص عليه  أحمد  في رواية  المروذي  ، فإنه قال : قلت  لأبي عبد الله     : ما تقول في  رجل مسلم ونصراني في دار ، ولهما أولاد ، فلم يعرف ولد النصراني من ولد المسلم   ؟ قال : " يجبرون على الإسلام " .  
أحمد  حكم بإسلام الأولاد هاهنا ؛ لأن بعضهم مسلم قطعا ، وقد اشتبه بالكافر فغلب جانب الإسلام ، ولا يلزم من هذا الحكم بإسلام من انقطع نسبه من جهة أبيه لكونه ولد زنا أو منفيا بلعان ، إذ لم يوجد هناك من يغلب لأجله الإسلام ، بل ولا شبهة إسلام .  
				
						
						
