[ ] . متى يحكم بإسلام الطفل
ونحن نذكر قاعدة فيما يقتضي الحكم بإسلام الطفل ، وما لا يقتضيه ، [ ص: 901 ] فنقول : إسلام الصبي يحصل بخمسة أشياء ، متفق على بعضها ، ومختلف في بعضها :
الأول : إسلامه بنفسه إذا عقل الإسلام ، فيصح عند الجمهور ، وهو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، وأصحابهم .
والذين قالوا بصحة إسلامه قالوا : يصح باطنا ، وظاهرا ، حتى لو رجع عنه أجبر عليه ، ولو أقام على رجوعه كان مرتدا ، ومنصوص عن : أنه لا يصح إسلامه ، ولأصحابه وجهان آخران : الشافعي
أحدهما : أنه يوقف إسلامه ، فإن بلغ واستمر على حكم الإسلام تيقنا أنه كان مسلما من يومئذ ، وإن وصف الكفر تبينا أنه كان لغوا ، وقد عبر عن هذا بصحة إسلامه ظاهرا لا باطنا .
والوجه الثاني : أنه يصح إسلامه ، حتى يفرق بينه وبين زوجته الكافرة ، ويورث من قريبه المسلم ، وهو اختيار الإصطخري .
قالوا : وعلى هذا لو ارتد صحت ردته ، ولكن لا يقتل حتى يبلغ فإن رجع إلى الإسلام ، وإلا قتل ، وأما على منصوص فقد يقال : يحال بينه وبين أبويه وأهله الكفار لئلا يفتنوه ، فإن بلغ ووصف الكفر هدد وطولب بالإسلام ، فإن أصر رد إليهم ، وهل هذه الحيلولة مستحبة أو واجبة ؟ فيه وجهان ، أصحهما : أنها مستحبة ، فيتلطف بوالديه ليؤخذ منهما ، فإن أبيا فلا حيلولة . الشافعي
هذا في أحكام الدنيا ، فأما ما يتعلق بالآخرة ، فقال الأستاذ [ ص: 902 ] أبو إسحاق : إذا أضمر كما أظهر كان من الفائزين بالجنة ، ويعبر عن هذا بصحة إسلامه باطنا لا ظاهرا .
قال في " النهاية " : وفي هذا إشكال ؛ لأن من حكم له بالفوز لإسلامه كيف لا نحكم بإسلامه ؟ وأجيب عنه : بأنه قد نحكم له بالفوز في الآخرة ، وإن لم تجر عليه أحكام الإسلام في الدنيا ، كمن لم تبلغه الدعوة .
والذين قالوا : " لا يصح إسلامه " احتجوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " وهو حديث حسن . رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ
[ ص: 903 ] قالوا : ولأنه قول تثبت به الأحكام في حقه ، فلم يصح منه كالهبة ، والبيع ، والعتق ، والإقرار ، قالوا : ولأنه غير مكلف ، فلم يصح إسلامه كالمجنون ، والنائم .
قالوا : ولأنه قبل البلوغ في حكم الطفل الذي لا يعقل ما يقول ، ولهذا كانت أقواله هدرا .
قالوا : ولأنه لو صح إسلامه لصحت ردته .
قال المصححون لإسلامه : هو من أهل قول : " لا إله إلا الله " ، وقد حرم الله على النار من قال : " لا إله إلا الله " ، ومن قال : " لا إله إلا الله " دخل الجنة .
قالوا : وهو مولود على الفطرة التي فطر الله عليها عباده ، فإذا تكلم بكلمة الإسلام فقد نطق بموجب الفطرة ، فعملت الفطرة والكلمة عملهما .
[ ص: 904 ] قالوا : وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى بقوله : " " وفي لفظ " كل مولود يولد على الفطرة " ، فجعل الغاية إعراب لسانه عنه : أي بيان لسانه عنه ، فإذا أعرب لسانه عنه صار إما شاكرا ، وإما كفورا بالنص ، ولأنه إذا بلغ سن التمييز ، وعقل ما يقول ، صار له إرادة ، واختيار ، ونطق يترتب عليه به الثواب ، وإن تأخر ترتب عليه العقاب إلى ما بعد البلوغ ، فلا يلزم من انتفاء صحة أسباب العقاب انتفاء صحة أسباب الثواب ، فإن الصبي يصح حجه ، وطهارته ، وصلاته ، وصيامه ، وصدقته ، وذكره ، ويثاب على ذلك ، وإن لم يعاقبه على تركه فباب الثواب لا يعتمد على البلوغ ، ولم يقم دليل شرعي على إهدار أقوال الصبي بالكلية ، بل الأدلة الشرعية تقتضي اعتبار أقواله في الجملة . على هذه الملة : فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه حتى يعرب عنه لسانه ، فإما شاكرا وإما كفورا
وقد أمر الله تعالى بابتلاء اليتامى ، وهو اختبارهم في عقودهم ومعاملاتهم ، ولهذا كان قول الجمهور ، أن ذلك يحصل بإذنه له في العقد ، ولا يحتاج إلى أن يأذن له في المراوضة ، ثم بعقد وليه .
وقد ذهب عبد الله بن الزبير ، وأهل المدينة ، وأحمد في إحدى الروايات إلى قبول بعضهم على بعض في جراحاتهم إذا كانوا منفردين . شهادة الصبيان
[ ص: 905 ] وقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى صحة ، وطلاقه ، وظهاره ، وإيلائه ، ولم يزل الصبيان يذهبون في حوائج أوليائهم وغيرهم ، ويقبلون قولهم في ثبوت الأسباب التي تقتضي الحل ، والحرمة ويعتمدون في وطء الفرج في الأمة والزوجة على قول الصبي ، فلم يهدر الشارع أقوال الصبي كلها . وصية الصبي
بل إذا تأملنا الشرع رأينا اعتباره لأقواله أكثر من إهداره لها ، وإنما تهدر فيما فيه عليه ضرر ، كالإقرار بالحدود ، والحقوق ، فأما ما هو نفع محض له في الدنيا ، والآخرة كالإسلام ، فاعتبار قوله فيه أولى من إهداره ، إذ أن أصول الشرع تشهد باعتبار قوله فيه .
وأيضا فإن الإسلام عبادة محضة ، وطاعة لله ، وقربة له ، فلم يكن البلوغ شرطا في صحتها : كحجه وصومه ، وصلاته ، وقراءته ، وأن الله تعالى دعا عباده إلى دار السلام ، وجعل طريقها الإسلام ، وجعل من لم يجب دعوته في الجحيم ، والعذاب الأليم ، فكيف يجوز منع الصبي من إجابة دعوة الله مع مسارعته ، ومبادرته إليها ، وسلوكه طريقها ، وإلزامه بطريق أهل الجحيم ، والكون معهم ، والحكم عليه بالنار ، وسد طريق النجاة عليه مع فراره إلى الله منها ؟ هذا من أمحل المحال ، ولأن هذا إجماع الصحابة ، فإن عليا - رضي الله عنه - أسلم صبيا ، وكان يفتخر بذلك ، ويقول .
سبقتكم إلى الإسلام طرا صبيا ما بلغت أوان حلمي
فكيف يقال : إن إسلامه كان باطلا لا يصح ؟ ولهذا قال غير واحد من التابعين ، ومن بعدهم : أبو بكر ، ومن الصبيان أول من أسلم من الرجال علي ، ومن النساء ، ومن العبيد خديجة بلال ، ومن الموالي زيد .[ ص: 906 ] وقال : أسلم عروة بن الزبير علي ، والزبير وهما ابنا ثمان سنين ، وبايع عبد الله بن الزبير وعمره سبع سنين ، أو ثمان ، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رآه .
وقال - رضي الله عنهما - : كنت أنا وأمي من المستضعفين ابن عباس بمكة " ، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحتلم ، ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد من الصبيان إسلامه قط ، بل كان يقبل إسلام الصغير والكبير ، والحر والعبد ، والذكر والأنثى ، ولم يأمر هو ، ولا أحد من خلفائه ، ولا أحد من أصحابه صبيا أسلم قبل البلوغ - عند البلوغ - أن يجدد إسلامه ، ولا عرف هذا في الإسلام قط .
[ ص: 907 ] وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " " فلم يرد به النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه لا يصح إسلامه ، ولا ذكره ، ولا قراءته ، ولا صلاته ، ولا صيامه ، فإنه لم يخبر أن قلم الثواب مرفوع عنه ، وإنما مراده بهذا الحديث رفع قلم التأثيم ، وأنه لا يكتب عليه ذنب ، والإسلام أعظم الحسنات ، وهو له لا عليه ، فكيف يفهم من رفع القلم عن الصبي بطلانه ، وعدم اعتباره ، والإسلام له لا عليه ، ويسعد به في الدنيا والآخرة ؟ رفع القلم عن ثلاثة
فإن قيل : فالإسلام يوجب الزكاة في ماله ، ونفقة قريبه المسلم ، ويحرمه ميراث قريبه الكافر ، ويفسخ نكاحه ، وهذه أحكام عليه لا له ، فتكون مرفوعة عنه بالنص ، ويستحيل رفعها مع قيام سببها ، فيلزم من رفعها رفع سببها : وهو الإسلام ، فالجواب من وجوه .
أحدها : أن يقال : قولان : للناس في وجوب الزكاة عليه
أحدهما : لا تجب عليه ، فلا يصح الإلزام بها .
والثاني : تجب في ماله ، وهي نفع محض له ، تعود عليه بركتها في العاجل ، والآجل ، فهي الحقيقة له لا عليه .
وأما نفقة قريبه فقد قدمنا أن الصحيح وجوبها مع اختلاف الدين ، فلم يتجدد وجوبها بالإسلام ، وإن تجدد وجوبها بالإسلام ، فالنفع الحاصل له بالإسلام في الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف الضرر الحاصل بتلك النفقة ، [ ص: 908 ] وليس في شرع الله ، ولا في قدره إضاعة الخير العظيم لما في ضمنه من شر يسير لا نسبة له إلى ذلك الخير ألبتة ، بل مدار الشرع ، والقدر على تحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما ، وارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما .
وأما حرمانه الميراث من قريبه الكافر فجوابه من وجوه :
أحدهما : أن هذا يلزمهم نظيره ، إذ قد يكون له قريب مسلم ، فإن لم يصحح إسلامه منع ميراثه منه ، وفي ذلك تفويت مصلحة دنياه وآخرته .
الثاني : أنا قد قدمنا أن مذهب كثير من الصحابة ، وجماعة من التابعين : أن دون العكس ، وبينا رجحان هذا القول بما فيه كفاية . المسلم يرث الكافر
الثالث : أنه ولو حرم الميراث فما حصل له من عز الإسلام ، وغناه ، والفوز به خير له مما فاته من شيء لا يساوي جميعه ، وأضعاف مثقال ذرة من الإيمان .
الرابع : أن هذا أمر متوهم ، فإنه قد لا يكون له مال يزكيه ، ولا قرابة ينفق عليه ، ولا مال ينفق منه على قرابته ، فكيف يجوز منع صحة الإسلام المتحقق النفع في الدنيا والآخرة خوفا من حصول هذا الأمر المتوهم الذي قد لا يكون له حقيقة أصلا في حق كثير من الأطفال ؟ ولو كان محققا فهو مجبور بميراثه من أقاربه المسلمين ، ومجبور بعز الإسلام ، وفوائده التي لا يحصيها إلا الله . ومثال تعطيل هذا النفع العظيم لأجل هذا الضرر المتوهم الذي لو كان موجودا لكان يسيرا جدا ، مثال من عطل منفعة الأكل لما فيها [ ص: 909 ] من تعب تحريك الفم ، وخسارة المال ، وعطل منفعة اللبس لما فيها من مفسدة خسارة الثمن ، وتوسيخ الثياب وتقطيعها ، بل الأمر أعظم من ذلك ، فلو فرض في الإسلام أعظم مضرة تقدر في المال ، والبدن لكانت هباء منثورا بالنسبة إلى مصلحته ، ومنفعته .