215 - فصل
في ذكر ، وذكر الخلاف فيه بناء ما استهدم منها ، ورم شعثه
قال صاحب " المغني " فيه : كل موضع قلنا : " يجوز إقراره " لم يجز هدمه .
وهذا ليس على إطلاقه ، فإن كنائس العنوة يجوز للإمام إقرارها للمصلحة ، ويجوز للإمام هدمها للمصلحة ، وبه أفتى الإمام أحمد المتوكل [ ص: 1211 ] في هدم كنائس العنوة كما تقدم ، وكما طلب المسلمون أخذ كنائس العنوة منهم في زمن الوليد حتى صالحوهم على الكنيسة التي زيدت في جامع دمشق ، وكانت مقرة بأيديهم من زمن عمر رضي الله عنه إلى زمن الوليد ، ولو وجب إبقاؤها وامتنع هدمها لما أقر المسلمون الوليد ، ولغيره الخليفة الراشد - لما ولي - ، فلا تلازم بين جواز الإبقاء وتحريم الهدم . عمر بن عبد العزيز
وقد اختلفت الرواية عن أحمد في بناء المستهدم ورم الشعث فعنه المنع فيهما ، ونصر هذه الرواية القاضي في " خلافه " ، وعنه الجواز فيهما ، وعنه يجوز رم شعثها دون بنائها .
قال الخلال في " الجامع " ( باب البيعة تهدم بأسرها أو يهدم بعضها ) :
أخبرنا عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي هل ترى لأهل الذمة أن يحدثوا الكنائس بأرض العرب ؟ وهل ترى لهم أن يزيدوا في كنائسهم التي صولحوا عليها ؟ فقال : " لا يحدثوا في مصر مصرته العرب كنيسة ولا بيعة ، ولا يضربوا فيها بناقوس ، ولهم ما صولحوا عليه ؛ فإن كان في عهدهم أن [ ص: 1212 ] يزيدوا في الكنائس فلهم وإلا فلا ، وما انهدم فليس لهم أن يبنوه " .
أخبرني أحمد بن [ الهيثم ] أن [ محمد بن موسى ] بن مشيش حدثهم في هذه المسألة أنه سأل أبا عبد الله فقال : " ليس لهم أن يحدثوا إلا ما صولحوا عليه ، إلا أن يبنوا ما انهدم مما كان لهم قديما " .
قال الخلال : وإنما معنى قول أبي عبد الله هاهنا أنهم يبنون ما انهدم ، يعني مرمة يرمون ، وأما إن انهدمت كلها بأسرها فعنده أنه لا يجوز إعادتها .
وقد بين أيضا ذلك حنبل عنه :
أخبرني عصمة بن عصام قال : حدثنا حنبل قال : سمعت أبا عبد الله قال : " كل ما كان مما فتح المسلمون عنوة فليس لأهل الذمة أن يحدثوا فيه كنيسة ولا بيعة ، فإن كان في المدينة لهم شيء فأرادوا أن يرموه فلا يحدثوا [ ص: 1213 ] فيه شيئا إلا أن يكون قائما ، فإن لم يبدلوا غيرها ، وما كان من صلح كان لهم ما صولحوا عليه ، وشرط لهم لا يغير لهم شرط شرط لهم . انهدمت الكنيسة أو البيعة بأسرها
قال الخلال : وهكذا هو في شرطهم أنه إن انهدم شيء رموه وإن انهدمت بأسرها لم يعيدوها .
قال القاضي في " تعليقته " : ( مسألة في البيع والكنائس التي يجوز إقرارها على ما هي عليه ) : إذا انهدم منها شيء أو تشعث فأرادوا عمارته فليس لهم ذلك - في إحدى الروايات - نقلها عبد الله قال : ورأيت بخط أبي حفص البرمكي في رسالة أحمد إلى المتوكل في هدم البيع رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه - وذكر فيها كلاما طويلا - إلى أن قال : وما انهدم فلهم أن يبنوه .
قال : وهذا يقتضي اختلاف اللفظ عن عبد الله ، ويغلب في ظني أن ما ذكره أبو بكر أضبط ( يعني الخلال ) فإنه قال : أخبرني عبد الله قال : قال أبي : [ ص: 1214 ] وما انهدم فليس لهم أن يبنوه ، ثم ذكر النصوص التي ذكرناها في رواية حنبل وابن مشيش ، واختار الخلال منع البناء وجواز رم الشعث .
واختلف أصحاب في ذلك فقال الشافعي : يمنعون من ذلك ، قال : حتى إن انهدم حائط البيعة منعوا من إعادته ورده ، وإن انثلم منعوا من سده ، وإن أرادوا أن يطينوا وجه الحائط الذي يلينا منعوا منه ، وإن طينوا الحائط الذي يلي البيعة كان لهم ذلك ، وكذلك إن بنوا دون هذا الحائط الذي يلي البيعة حتى يهدم ذلك لم يجز ؛ لأنهم يمنعون من الإحداث وهذه الإعادة إحداث ، وأبى ذلك سائر أصحاب أبو سعيد الإصطخري وقالوا : نحن قد أقررناهم على البيع فلو منعناهم من رقع ما استرم منه وإعادة ما انهدم كان بمنزلة القلع والإزالة ؛ إذ لا فرق بين أن يزيلها وبين أن يقرها عليهم ثم يمنعهم من عمارتها . الشافعي
واختلفت المالكية على قولين أيضا ؛ فقال : يمنعون من رم كنائسهم القديمة إذا رثت إلا أن يكون ذلك في شرط عقدهم ، ونقل ابن الماجشون أبو عمر أنهم لا يمنعون من إصلاح ما وهى منها .
واحتج القاضي على المنع بحديث رواه عن الخطيب عن ابن [ ص: 1215 ] رزقويه ، ثنا محمد بن عمرو ، ثنا ، ثنا محمد بن غالب بن حرب بكر بن محمد القرشي ، ثنا سعيد بن عبد الجبار ، عن ، عن [ سعيد بن سنان أبو ] الزاهرية ، عن قال : سمعت كثير بن مرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عمر بن الخطاب لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها " .
[ ص: 1216 ] وهذا لو صح لكان كالنص في المسألة ، ولكن لا يثبت هذا الإسناد ، ولكن في شروط عمر عليهم : " ولا يجدد ما خرب من كنائسنا " .
قالوا : ولأن تجديدها بمنزلة إحداثها وإنشائها فلا يمكنون منه .
قالوا : ولأنه بناء لا يملك إحداثه ، فلا يملك تجديده كالبناء في أرض الغير بغير إذنه .
فإن قيل : الباني في ملك الغير بغير إذنه لا يملك الاستدامة فلا يملك التجديد ، وهؤلاء يملكون الاستدامة فملكوا التجديد ، قيل : لا يلزم هذا فإنه لو أعاره حائطا لوضع خشبة عليه جاز له استدامة ذلك ، فلو انهدم الحائط فبناه صاحبه لم يملك المستعير تجديد المنفعة .
وكذلك لو ملك الذمي دارا عالية البنيان جاز له أن يستديم ذلك ، فلو انهدمت فأراد بناءها لم يكن له أن يبنيها على ما كانت عليه ، بل يساوي بها بنيان جيرانه من المسلمين أو يحطها عنه .
وأيضا لو فتح الإمام بلدا في بيعة خراب لم يجز له بناؤها بعد الفتح ، كذلك هاهنا .
وأيضا فإنه إذا انهدم جميعها زال الاسم عنها ، ولهذا لو حلف : لا دخلت دارا ، فانهدمت جميعها ودخل براحها لم يحنث لزوال الاسم .
فلو قلنا : يجوز بناؤها إذا انهدمت كان فيه إحداث بيعة في دار الإسلام ، وهذا لا يجوز كما لو لم يكن هناك بيعة أصلا .
قال المجوزون ، وهم أصحاب أبي حنيفة وكثير من أصحاب والشافعي مالك وبعض أصحاب أحمد : لما أقررناهم عليها تضمن إقرارنا لهم جواز [ ص: 1217 ] رمها وإصلاحها وتجديد ما خرب منها ، وإلا بطلت رأسا ؛ لأن البناء لا يبقى أبدا ، فلو لم يجز تمكينهم من ذلك لم يجز إقرارها .
قال المانعون : نحن نقرهم فيها مدة بقائها كما نقر المستأمن مدة أمانه . وسر المسألة أنا أقررناهم اتباعا لا تمليكا ، فإنا ملكنا رقبتها بالفتح وليست ملكا لهم .
واختار صاحب " المغني " جواز رم الشعث ومنع بنائها إذا استهدمت قال : لأن في كتاب أهل الجزيرة : " ولا نجدد ما خرب من كنائسنا " . وروى لعياض بن غنم قال : سمعت كثير بن مرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عمر بن الخطاب لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها " .
قال : ولأن هذا فلم يجز ، كما لو ابتدئ بناؤها ، وفارق رم ما شعث منها فإنه إبقاء واستدامة وهذا إحداث . بناء كنيسة في الإسلام
قال : وقد حمل الخلال قول أحمد : " لهم أن يبنوا ما انهدم منها " أي : إذا انهدم بعضها ، " ومنعه من بناء ما انهدم " على ما إذا انهدمت كلها ، فجمع بين الروايتين .