[ ص: 91 ]    [  ادعاء يهود  خيبر   إسقاط الجزية عنهم   ورد ذلك ]  
وهذه الشبهة هي التي أوقعت عند اليهود أن أهل  خيبر   لا جزية عليهم ، وأنهم مخصوصون بذلك من جملة اليهود ، ثم أكدوا أمرها بأن زوروا كتابا فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسقط عنهم الكلف والسخر والجزية ووضعوا فيه شهادة   سعد بن معاذ   ومعاوية بن أبي سفيان  وغيرهما ، وهذا  الكتاب كذب مختلق بإجماع أهل العلم من عشرة أوجه      :  
منها : أن أحدا من علماء النقل والسير والمغازي لم يذكر أن ذلك وقع ألبتة مع عنايتهم بضبط ما هو دون ذلك بكثير .  
الثاني : أن الجزية إنما نزلت بعد فتح  خيبر   فحين صالح أهل  خيبر   لم تكن الجزية نزلت حتى يضعها عنهم .  
الثالث : أن   معاوية بن أبي سفيان  لم يكن أسلم بعد فإنه إنما أسلم عام الفتح بعد  خيبر      .  
الرابع : أن   سعد بن معاذ  توفي عام  الخندق   قبل فتح  خيبر      .  
الخامس : أنه لم يكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل  خيبر   كلف ولا سخر حتى توضع عنهم .  
السادس : أنه لم يكن  لأهل  خيبر    من الحرمة ورعاية حقوق المسلمين ما يقتضي وضع الجزية عنهم ، وقد كانوا من أشد الكفار عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فأي خير حصل بهم للمسلمين حتى توضع عنهم الجزية دون سائر الكفار ؟  
 [ ص: 92 ] السابع : أن الكتاب الذي أظهروه ادعوا أنه بخط   علي بن أبي طالب  رضي الله عنه ، وهذا كذب قطعا وعداوة  علي  رضي الله عنه لليهود معروفة ، وهو الذي قتل "  مرحبا     " اليهودي وأثخن في اليهود يوم  خيبر   حتى كان الفتح على يديه .  
 [ ص: 93 ] الثامن : أن هذا لا يعرف إلا من رواية اليهود وهم القوم البهت ، أكذب الخلق على الله وأنبيائه ورسله ، فكيف يصدقون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يخالف كتاب الله تعالى ؟ !  
التاسع : أن هذا الكتاب لو كان صحيحا لأظهروه في أيام الخلفاء الراشدين وفي أيام   عمر بن عبد العزيز  ، وفي أيام  المنصور  والرشيد  ، وكان أئمة الإسلام يستثنونهم ممن توضع عنهم الجزية أو لذكر ذلك فقيه واحد من فقهاء المسلمين ، ولا يجوز على الأمة أن تجمع على مخالفة سنة نبيها ، وكيف يكون بأيدي أعداء الله كتاب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يحتجون به كل وقت على من يأخذ الجزية منهم ، ولا يذكره عالم واحد من علماء السلف ؟ وإن اغتر به بعض من لا علم له بالسيرة والمنقول من المتأخرين ، شنع عليه أصحابه وبينوا خطأه وحذروا من سقطته .  
العاشر : أن أئمة الحديث والنقل يشهدون ببطلان هذا الكتاب ،      [ ص: 94 ] وأنه زور مفتعل وكذب مختلق ، ولما أظهره اليهود بعد الأربع مائة على عهد الحافظ   أبي بكر الخطيب البغدادي  أرسل إليه الوزير  ابن المسلمة  فأوقفه عليه فقال الحافظ : هذا الكتاب زور فقال له الوزير : من أين هذا ؟ فقال : فيه شهادة   سعد بن معاذ   ومعاوية بن أبي سفيان  وسعد  مات يوم  الخندق   قبل  خيبر   ،  ومعاوية  أسلم يوم الفتح سنة ثمان ،  وخيبر   كانت سنة سبع . فأعجب ذلك الوزير .  
والمقصود أن  النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ الجزية من أحد من      [ ص: 95 ] مشركي العرب   لأن آية الجزية نزلت بعد عام  تبوك   ، وكانت عباد الأصنام من العرب كلهم قد دخلوا في الإسلام فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يدخل في الإسلام من اليهود ومن النصارى ومن  المجوس      .  
قال المخصصون بالجزية لأهل الكتاب : المراد من إرسال الرسل وإنزال الكتب إعدام الكفر والشرك من الأرض وأن يكون الدين كله لله كما قال تعالى :  وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله   ، وفي الآية الأخرى :  ويكون الدين كله لله   ، ومقتضى هذا ألا يقر كافر على كفره ، ولكن جاء النص بإقرار أهل الكتاب إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فاقتصرنا بها عليهم وأخذنا في عموم الكفار بالنصوص الدالة على قتالهم إلى أن يكون الدين كله لله .  
قالوا : ولا يصح  إلحاق عبدة الأوثان بأهل الكتاب      ; لأن كفر المشركين أغلظ من كفر أهل الكتاب ، فإن أهل الكتاب معهم من التوحيد وبعض آثار الأنبياء ما ليس مع عباد الأصنام ، ويؤمنون بالمعاد والجزاء والنبوات بخلاف عبدة الأصنام .  
وعبدة الأصنام حرب لجميع الرسل وأممهم من عهد  نوح   إلى خاتم الأنبياء والمرسلين ; ولهذا أثر هذا التفاوت الذي بين الفريقين في حل الذبائح وجواز المناكحة من أهل الكتاب دون عباد الأصنام ، ولا ينتقض هذا  بالمجوس   فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يسن بهم سنة أهل الكتاب وهذا يدل على أن الجزية إنما تؤخذ من أهل الكتاب وأنها إنما      [ ص: 96 ] وضعت لأجلهم خاصة وإلا لو كانت الجزية تعم جميع الكفار لم يكن أهل الكتاب أولى بها من غيرهم ، ولقال : لهم حكم أمثالهم من الكفار يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية .  
وأما تحريم ذبائحهم ومناكحتهم فاتفاق من الصحابة رضي الله عنهم ، ولهذا أنكر الإمام  أحمد  وغيره على   أبي ثور  طرده القياس وإفتاءه بحل ذبائحهم وجواز مناكحتهم ودعا عليه  أحمد  حيث أقدم على مخالفة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة كانوا أفقه وأعلم وأسد قياسا ورأيا فإنهم أخذوا في الدماء بحقنها موافقة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله ، حيث أخذها منهم وأخذوا في الأبضاع والذبائح بتحريمها احتياطا وإبقاء لها على الأصل ، وإلحاقا لهم بعباد الأوثان إذ لا فرق في ذلك بين عباد الأوثان وعباد النيران ، فالأصل في الدماء حقنها وفي الأبضاع والذبائح تحريمها فأبقوا كل شيء على أصله ، وهذا غاية الفقه وأسد ما يكون من النظر .  
				
						
						
