وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا الكلام على قوله تعالى :
قال المفسرون : لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج فقال إبراهيم : يا رب وما يبلغ صوتي ؟ قال : أذن وعلي البلاغ ، فعلا أبا قبيس وقال : يا أيها الناس إن ربكم قد بنى بيتا فحجوه ، فأسمع من أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن سبق في علم الله عز وجل أن يحج فأجابوه : لبيك اللهم لبيك .
وقوله : رجالا أي مشاة ، وقد حج إبراهيم وإسماعيل ماشيين ، وحج عليهما السلام خمسا وعشرين حجة ماشيا والنجائب تقاد معه ، وحج الحسن بن علي رضي الله عنه ماشيا مرتين . أحمد بن حنبل
[ ص: 522 ] سجع على قوله تعالى :
وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا
أمر الله نبيه الخليل بعد بناء بيته الجليل أن ينادي عبيده إلى الفضل الجزيل ، ليحط عنهم مولاهم كل وزر ثقيل ، فقال سبحانه وتعالى وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا .
يا إبراهيم نادهم ليحصل نفعهم في معادهم ، وأزعجهم بندائك من بلادهم وأخرجهم عن أهلهم وأولادهم فليقصدوا بابي مسرعين عجالا وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا .
يا غافلا عني أنا الداعي ، يا متخلفا عن زيارتي أنا ألقى الساعي ، يا مشغولا عن قصدي لو عرفت اطلاعي ، أنا أقمت خليلي يدعو إلى سبيلي ، وأقبلت بتنويلي على محبي إقبالا وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا .
لله در أقوام فارقوا ديارهم وعانقوا افتقارهم ، وآثروا غبارهم وطهروا أسرارهم ، يدعون عند البيت قريبا سميعا ، ويقفون بين يديه بالذل جميعا ، ويسعون في مراضيه سعيا سريعا ، وقد ودعوا مطلوب شهواتهم توديعا ، فأفادهم مولاهم أن رجعهم كيوم أخرجهم أطفالا .
هجروا الكدر وهاجروا إلى الصفا ، وقصدوا المروة بعد أن أموا الصفا ، وحذروا الرد وخافوا الجفا ، وتعلقت آمالهم بمن هو حسبهم وكفى .
ناد زواري أنا أدعوهم نحو بيتي لينالوا شرفا فهم وفدي إذا ما نزلوا
بحريمي إذ دنوا مزدلفا ولهم عندي مزيد ولهم
من نوالي ما أحبوا طرفا فارقوا أوطانهم إذ قصدوا
نحو بابي يطلبون الزلفى فلهم مني مهما أملوا
سلفا ينمى وينشي خلفا
استسعاهم إليه فاجتهدوا وجدوا ، وتزودوا التقوى في طريقهم واستعدوا ، وأتعبوا الأعضاء في خدمته وكدوا ، وطرقوا بأنامل الرجاء باب اللجا فما ردوا ، ناداهم وهم في الأصلاب والأرحام ، واستصلحهم لزيارة بيته الحرام ، وأكرمهم بالغفران فيا نعم الإكرام ، [ ص: 523 ] ورحم شعث الرؤوس وغبار الأقدام ، وأنتم إن بعدتم عن ذلك المقام فقد شاركتموهم في الإيمان والإسلام ، فارغبوا بالتضرع إلى المليك العلام ، فإنه معروف بالفضل موصوف بالإنعام .
ذكر عن رحمه الله تعالى قال : صحبت مالك بن أنس جعفر الصادق رضي الله عنه فلما أراد أن يلبي تغير وجهه وارتعدت فرائصه فقلت : ما لك يا بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أردت أن ألبي ، قلت : فما يوقفك ؟ قال : أخاف أن أسمع غير الجواب ! .
وقف مطرف وبكر ابنا عبد الله فقال مطرف : اللهم لا تردهم من أجلي ، وقال بكر : ما أشرفه من مقام لولا أني فيهم ! .
وروي عن أنه وقف الفضيل بن عياض بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة ، فلما كادت الشمس أن تسقط قبض على لحيته ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : واسوأتاه منك وإن عفوت ! .
أخبرنا أبو بكر بن حبيب بسنده عن علي بن هزارمرد الصوفي قال : سمعت ابن محبوب تلميذ أبي الأديان يقول : ما رأيت خائفا إلا رجلا واحدا ، كنت بالموقف فرأيت شابا مطرقا منذ وقف الناس إلى أن سقط القرص ، فقلت له : يا هذا ابسط يدك للدعاء فقال لي : ثم وحشة ، فقلت له : فهذا يوم العفو عن الذنوب ، قال فبسط يده ووقع ميتا .
أخبرنا أبو بكر بن حبيب بسنده عن أبي بكر محمد بن داود الدينوري قال : سمعت أبا عبد الله بن الجلاء ، يقول : كنت بذي الحليفة وشاب يريد أن يحرم ، فكان يقول : يا رب أريد أن أقول لبيك اللهم لبيك فأخشى أن تجيبني بلا لبيك ولا سعديك ، يردد ذلك مرارا ، ثم قال : اللهم لبيك ، مد بها صوته وخرجت روحه ، رحمة الله عليه .
وقال سري : لقيت في طريق الحج حبشية فقلت : إلى أين ؟ قالت : الحج ، قلت : الطريق بعيد ، فقالت :
بعيد على كسلان أو ذي ملالة فأما على المشتاق فهو قريب
لما حج الشبلي وأشرف على جدران مكة قال :
أبطحان مكة هذا الذي أراه عيانا وهذا أنا !
هذه دارهم وأنت محب ما بقاء الدموع في الآماق
قدمي اعتورا رمل الكثيب واطرقا الآجن من ماء القليب
رب يوم رحتما فيه على زهرة الدنيا وفي واد خصيب
وسماع حسن من حسن صخب المزهر كالظبي الربيب
فاحسبا ذاك بهذا واصبرا وخذا من كل فن بنصيب
إنما أمشي لأني مذنب فلعل الله يعفو عن ذنوبي
ولي أنة الشاكي وإن بعد المدى ما بيننا وتنفس المكروب
وعلى كل ضامر
أي ركبانا على ضمر من السفر ، نجائب تحمل الأحباب ، صوابر على الإنضاء والإتعاب ، ترفل بالزائرين إلى رب الأرباب ، ادخرت لهم التحف والبشائر ، ونظرت إلى صبرهم على فراق العشائر ، ودعوتهم إلى نيل الأمل الوافر ، ورحمت شعث الشعث وغبار المسافر ، وكتبت في حسناتهم خطوات كل ذي خف وحافر ، وأربحت تجارة كل وارد نحوي وصادر ، وأعدتهم إلى منازلهم وما فيهم خاسر ، فنادهم : يأتوك رجالا وعلى كل ضامر .
يأتين من كل فج عميق قوله تعالى :
يأتين : فعل للنوق ، وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة " يأتون " على أنه فعل للرجال ، والفج العميق : المكان البعيد .
صبروا على مشاق الطريق بين هبوط وصعود ومضيق ، واحتملوا لأجلي خلق الرفيق ، ورضوا من فريقهم بالبعاد والتفريق ، وحديت بهم المطايا من كل بلد سحيق ، وجانبوا ما [ ص: 525 ] يشين وصاحبوا ما يليق ، وصابروا ظمأ الشفاه وقلة الريق ، فلأسقينهم يوم لقائي من السلسبيل والرحيق ، فنادهم يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق .
ليشهدوا منافع لهم قوله تعالى :
وهي ربح التجارة في الدنيا والثواب في الأخرى .
سبحان من إلى بيته حملهم وبفنائه أنزلهم وإلى حرمه أوصلهم ، وبإخلاص قصده جملهم ، فلقد جمع الخير الجم لهم ليشهدوا منافع لهم .
حركهم بتوفيقه فثاروا ، واستدعاهم إلى بيته فساروا ، وأوصلهم إلى حرمه فزاروا ، فيا حسنهم في الطواف ، إذا سعوا وداروا ، واجتمعوا بالآمال حول البيت واستداروا ، فضافهم من أضافهم إلى الأحباب وأنزلهم ليشهدوا منافع لهم .
يا كثرة ما أعطاهم من العطايا ، يا شرف ما أنالهم من الهدايا ، فلقد تلقاهم بالجود والتحايا ، وحط عنهم من الذنوب والخطايا ما أثقلهم ، أتعبهم المشي وأزعجهم المركوب ، وكان ذلك هينا في قرب المحبوب فأنعم عليهم بكل مطلوب ، وقابلهم بالعفو عن الذنوب وقبلهم ، تعلقوا بذيل رحمتي ولطفي ، وسألوني مودتي وعطفي ، واشتغلوا بي دون غيري ويكفي فلا تعلم نفس ما أخفي لهم .
إخواني : إن لم نصل إلى ديارهم فلنصل انكسارنا بانكسارهم ، إن لم نقدر على عرفات فلنستدرك ما قد فات ، إن لم نصل إلى الحجر فليلن كل قلب حجر ، إن لم نقدر على ليلة جمع ومنى فلنقم بمأتم الأسف ههنا ، أين المنيب الأواب أين المجد السابق ، هذا يوم يرحم فيه الصادق ، هذا أوان يطلع فيه الخالق ، يا مؤملا مثله قد لا يوافق ، من لم ينب في هذا اليوم فمتى ينيب ، ومن لم يجب في هذا الوقت فمتى يجيب ، ومن لم يتعرف بالتوبة فهو غريب ، ومن لم يقر بالعفو فما له من نصيب ، أسفا لعبد لم يغفر له اليوم ما جنى ، كلما هم بخير نقض الطرد ما بنى ، حضر مواسم الأرباح فما حصل خيرا ولا اقتنى ، ودخل بساتين الفلاح فما مد كفا ولا جنى ، ليت شعري من منا خاب ومن منا نال المنى ، فيا إخواني : إن فاتنا نزول منى ، فلننزل دموع الحسرات ههنا ، وكيف لا نبكي ولا ندري ماذا يراد بنا ، وكيف بالسكون وما نعلم ما عنده لنا .
فلذا الموقف أعددنا البكا ولذا اليوم الدموع تقتنى