[ ص: 527 ] الطبقة الثالثة :
تشتمل على ذكر خلق ابن آدم والأرض والسماوات
فيها ثلاثة مجالس
[ ص: 528 ] [ ص: 529 ] المجلس الأول
يذكر فيه آدم خلق ابن
الحمد لله الخالق بقدرته ما دب ودرج ، الفاتق بصنعته ما التأم وارتتج ، الراتق بحكمته ما افترق وانفرج ، الدال على وحدانيته بالبراهين والحجج ، أنشأ الأبدان من النطف وحفظ فيها المهج ، ونور العيون فأحسن في تركيبها الدعج ، وأنطق اللسان فأبان سبل المراد ونهج ، وعلم الإنسان البيان فإذا خاصم فلج ، بقدرته سكن المتحرك فما زال ولا اختلج ، ولهيبته تحرك الساكن فتغير وانزعج ، طوى اللطف في تكاليف الخلائق ودرج وما جعل عليكم في الدين من حرج خلق البحرين هذا عذب فرات ، وهذا ملح أجاج ومرج ، واستخرج بدائع الودائع من بواطن اللجج ، وعلم ما ظهر في الأرض ورأى ما فيها ولج ، بصير يرى جريان الدماء في باطن الودج ، سميع يدرك بسمعه صوت الباكي إذا نشج ، لا يخفى على بصره في سواد الليل سواد الثبج ولا يعزب عن سمعه أنين المدنف يرجو الفرج ، أنزل كلاما قديما من ورد بحره ارتوى وابتهج ، قرآنا عربيا غير ذي عوج ، أحمده حمد من جمع المحامد في حمده ودرج ، وأشهد أنه العظيم القدر الرفيع الدرج ، وأصلي على رسوله محمد الذي إلى قاب قوسين عرج ، وعلى صاحبه الذي لا يبغضه إلا الرعاع الهمج ، وعلى أبي بكر الصديق الذي يفوح من ذكره أذكى الأرج ، وعلى عمر الذي جمع الإنفاق إلى الصهر فازدوج ، وعلى عثمان المجمع على حبه فإن خرج شخص من الإجماع خرج ، وعلى عمه علي الذي افتخر به بيت الخلافة وابتهج . العباس
قال الله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين .
المراد بالإنسان هاهنا آدم عليه السلام ، والسلالة فعالة ، وهي القليل مما يسل ، فاستل من كل الأرض ، وقد روى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبو موسى وقد ذكرنا قصة إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض آدم عليه السلام في أول الكتاب .
قوله تعالى : ثم جعلناه نطفة يعني ابن آدم ، والمراد بالنطفة المني في قرار يعني الرحم مكين أي حريز قد هيئ لاستقراره فيه .
قوله تعالى : ثم خلقنا النطفة علقة والعلقة دم عبيط جامد ، وسميت علقة [ ص: 530 ] لتعلقها بما تمر به ، فإذا جفت فليست علقة ، والمضغة لحمة صغيرة ، وسميت بذلك لأنها بقدر ما يمضغ .
فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر وفي محل هذا الإنشاء قولان : أحدهما : بطن الأم ، ثم صفة الإنشاء فيه قولان : أحدهما : نفخ الروح ، رواه عن عطاء وبه قال ابن عباس أبو العالية ، والقول الثاني : أنه بعد خروجه من بطن أمه . والشعبي
ثم في صفة هذا الإنشاء أربعة أقوال : أحدها : أن ابتداء ذلك الإنشاء أنه استهل ثم دل على الثدي وتقلب من حال إلى حال ، رواه عطية عن ، والثاني : أنه استواء الشباب ، قاله ابن عباس ، والثالث : خروج الأسنان والشعر ، قاله ابن عمر الضحاك ، والرابع : إعطاء العقل والفهم ، حكاه الثعلبي .
فتبارك الله أي تعالى ورفع أحسن الخالقين أي المصورين والمقدرين .
أخبرنا ، أنبأنا هبة الله بن محمد الحسن بن علي التميمي ، أنبأنا ، حدثنا أحمد بن جعفر ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش عن زيد بن وهب رضي الله عنه قال : عبد الله بن مسعود رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها " . إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : أخرجاه في الصحيحين . حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : "
وفي أفراد من حديث مسلم حذيفة بن أسيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول : يا رب رزقه ؟ فيقضي ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص " .
قال علماء المتطببين : أول الأحوال الحادثة في المني أن يكون له زبد ثم يوجد النفخ [ ص: 531 ] مندفعا إلى وسط الرطوبة إعدادا لمكان القلب ، ثم تتميز الأعضاء ويتنحى بعضها عن مماسة بعض ويحيط بالجنين ثلاثة أغشية : غشاء تنسج فيه العروق ، وغشاء ينصب فيه بول الجنين ، وغشاء يجمع الرطوبة التي ترشح من الجنين .
وللرأس أربعة عظام : ثلاثة كالجدان وواحد كالقاعدة ، وجعلت هذه الجدران أصلب من اليافوخ لأن السقطات والصدمات عليها أكثر ويخف القحف لمعنيين : أحدهما لئلا يثقل على الدماغ ، والثاني لينفذ منه البخار .
ومن العظام ما هو أساس للبدن كفقار الصلب يبنى عليه كما يبنى السقف على الخشبة الأولى ، ومنها كالمجن كالقحف فإنه جنة للدماغ من الآفات ، وخلق جوهر الدماغ باردا رطبا لينا دسما ، فأما برده فلأمرين : أحدهما : تعديل الحرارة التي تنفذ إليه من القلب ، والثاني : لئلا يحترق لكثرة ما يتأدى إليه من حركات الروح في التخيل والفكر والتفكر والذكر ، وهذه القوى الثلاث مسكنها الدماغ فموضع التخيل البطنان المقدمان من بطون الدماغ ، وموضع الفكر البطن الأوسط ، وموضع الحفظ المؤخر من بطون الدماغ ، وأما رطوبته ولينه فلئلا تجففه الحركات ، وأما خلقه دسما فليكون ما ينبت فيه من العصب لينا .
وقد جلل الدماغ بغشائين : أحدهما رقيق يليه ، والآخر صفيق يلي العظم ، وإنما خلقا ليكونا حاجزين بين الدماغ والعظم .
وأما العين فإنما جعلتا اثنتين ليتكونا إذا عرضت لإحداهما آفة قامت الأخرى بالبصر ، وكل عين مركبة من عشرة أجزاء وهي سبع طبقات وثلاث رطوبات ، والطبقات كقشور البصل إن أصابت بعضها آفة نابت الأخرى ، والرطوبات يقع النظر بالوسطى وهي صافية منيرة والرطوبتان من جانبيها ، فواحدة موضوعة خلفها تقرب من طبيعتها تتناول الغذاء أو تقلبه إلى طبعها فتتناول منه الرطوبة المبصرة ، والرطوبة الثانية تندي المبصرة لئلا تجف ، وخلق الهدب ليدفع ما يطير إلى العين وليعدل الضوء بسواده .
وأما الأذن فجعل لها صدف معرج ليجمع الصوت ، وخلق الأنف لينحصر فيه الهواء فيعتدل في حلوله قبل أن ينفذ إلى الدماغ والرئة ، ثم هو ستر للفضلات المنحدرة ، واللسان آلة لتقليب الممضوغ وتقطيع الصوت في إخراج الحروف وإليه تمييز الذوق .
والشفتان غطاء للفم والأسنان ، ومحبسا للعاب ، ومعينا على الكلام وجمالا ، واللهاة : جوهر لحمي معلق على أعلى الحنجرة ومنفعته تدريج الهواء لئلا يقرع ببرده الرئة فجأة ، وليمنع الدخان والغبار كأنه باب موصد على مخرج الصوت بقدره .
والأسنان اثنان وثلاثون سنا ، فمنها ثنيتان من فوق وثنيتان من تحت ورباعيتان من فوق [ ص: 532 ] ورباعيتان من تحت ، ونابان من فوق ونابان من تحت ، ثم الأضراس وهي عشرون من كل جانب من الفم خمسة ، فمنها الضواحك وهي أربعة أضراس تلي الأنياب إلى جنب كل ناب من أسفل الفم وأعلاه ضاحك ، ثم بعد الضواحك الطواحن ويقال لها: الأرحاء وهي اثنا عشر طاحنا من كل جانب من الفم واحد من فوق وواحد من أسفل ، فالأنياب للكسر والرباعيات للقطع والأضراس للطحن .
وخرز العنق سبع وفقار الصدر إحدى عشرة فقرة والصدر مؤلف من سبعة أعظم ، والساعد مؤلف من عظمين متلاصقين يسميان الزندين والفوقاني الذي يلي الإبهام أدق والسفلاني أغلظ لأنه حامل .
وعظام الأصابع غير مجوفة لتكون أقوى على الثبات في الحركة والقبض ، وطال بعضها لتستوي عند القبض . والظفر سند للأنملة وآلة للحك والتنقية .
والصلب مسلك النخاع ، والمعدة تهضم بحرارة في لحمها وبحرارة أخرى مكتسبة من الأجسام المجاورة ، والطحال منفرش تحتها من اليسار وهو وعاء لبعض فضلاتها وللكبد عرقان أحدهما يجذب إليها الطعام فيطبخه ويوجهه في العرق الآخر إلى البدن ويبعث الماء منه إلى الكليتين والرغوة الصفراوية إلى المرارة والرسوب السوداوي إلى الطحال .
والقلب مخلوق من لحم قوي ليكون أبعد من الآفات ، وقد أميل يسيرا إلى اليسار ليبعد عن الكبد ، وله زائدتان كالأذنين فهما كخزانتين يقبلان النسيم ويرسلانه إلى القلب بقدر .
والمرارة كيس معلق من الكبد إلى ناحية المعدة تجذب الخلط الغليظ والمرار الأصفر فينقي الكبد عن الفضول ويسخنها ، ولولا أن المرارة تجذب المرة الصفراء لسرت إلى البدن مع الدم فتولد منها اليرقان الأصفر فهي تجذبه وتقذف منه جزءا إلى المعى فيغسل ما فيها من الأثفال بلذعه وتحريكه لها ، وجزءا إلى المعدة ليعينها بحرارته على الهضم .
وجميع عظام البدن بعدد أيام السنة يظهر منها للحس مائتان وخمسة وستون والباقية صغار تسمى السمسمانية .
وقد روى في أفراده من حديث مسلم رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عائشة آدم على ستين وثلاث مائة مفصل ، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو عظما ، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة ، فإنه يمشي حينئذ وقد زحزح نفسه عن النار " . " خلق كل إنسان من بني
[ ص: 533 ] وعضل البدن خمسمائة وتسع وعشرون عضلة .
والمرارة بيت الصفراء والرئة بيت البلغم والطحال بيت السوداء والمثانة بيت البرودة والكلى بيت الشهوة والقلب بيت النفس .
وفي بعض هذا ما يحرك الفكر فيوجب العلم بعظمة الخالق سبحانه فيحث على امتثال أمره واجتناب نواهيه .
وقد كان بعض العلماء في مركب فهاج البحر فأخرج كتاب التشريح ونشره نحو السماء كالمستشفع به ، فأنكر قوم ذلك فقال بعض العلماء : كأن يقول : يا من هذا من آثار حكمته وصنعته اكشف عنا ! .