التائبون العابدون الحامدون
قد أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة فقال : وتوبوا إلى الله جميعا ووعد القبول فقال : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وفتح باب الرجاء فقال : لا تقنطوا من رحمة الله .
أخبرنا هبة الله بن محمد بن المذهب ، أنبأنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا حدثني عبد الله بن أحمد ، أخبرنا أبي ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا شعبة ، سمعت عمرو بن مرة ، قال : سمعت أبا بردة الأغر يحدث عن أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس توبوا إلى ربكم ، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة ابن عمر " انفرد بإخراجه مسلم .
وبالإسناد حدثنا حدثنا أحمد حسن بن محمد ، حدثنا عن محمد بن مطرف ، زيد ابن أسلم ، عبد الرحمن بن البيلماني قال : اجتمع أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم " . فقال الثاني : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : وأنا سمعته يقول : " إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم " . فقال الثالث : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : وأنا سمعته يقول : " إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة " . فقال الرابع : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : وأنا سمعته يقول : " " . إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه عن
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل بأرض دوية مهلكة معه راحلته ، فطلبها حتى إذا أدركه الموت قال : [ ص: 28 ] أرجع إلى مكاني الذي أضللتها فيه فأموت فيه ، فأتى مكانه فغلبته عيناه ، فاستيقظ فإذا راحلته عند رأسه عليها طعامه وشرابه وزاده وما يصلحه ، فالله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته وزاده " . ابن مسعود من حديث
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي ، يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني فكيف إرادتي بالمقبلين علي !
إخواني : الذنوب تغطي على القلوب ، فإذا أظلمت مرآة القلب لم يبن فيها وجه الهدى ، ومن علم ضرر الذنب استشعر الندم .
قال أبو علي الروذباري رحمه الله : " " ! . من الاغترار أن تسيء فيحسن إليك فتترك التوبة توهما أنك تسامح في الهفوات
فواعجبا لمن يأمن وكم قد أخذ آمن من مأمن ، ومن تفكر في الذنوب علم أن لذات الأوزار زالت ، والمعاصي بالعاصي إلى النار آلت ، ورب سخط قارن ذنبا فأوجب بعدا وأطال عتبا ، وربما بغت العاصي بأجله ولم يبلغ بعض أمله ، وكم خير فاته ، وكم بلية في طي جناياته .
قال لقمان لابنه : يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة .
قائد الغفلة الأمل والهوى رائد الزلل قتل الجهل أهله
ونجا كل من عقل فاغتنم دولة الشبيبة
واستأنف العمل . . . أيها المبتني الحصون
وقد شاب واكتهل . . . أخبر الشيب عنك
أنك في آخر الأجل . . . فعلام الوقوف في
عرصة العجز والكسل . . . منزل لم يزل يضيق
وينبو بمن نزل . . . أنت في منزل
إذا حله نازل رحل . . .
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر ولا بد من زاد لكل مسافر
ولا بد للإنسان من حمل عدة ولا سيما إن خاف سطوة قاهر
وطرقك طرق ليس تسلك دائما وفيها عقاب بعد صعب القناطر
فانتبه فزعا مرعوبا وقال : هذا تنبيه من الله عز وجل وموعظة ، فخرج من ملكه لا يعلم به أحد ، وقصد هذا الجبل فتعبد فيه ، فلما بلغني أمره قصدته فسألته فحدثني ببدء أمره وحدثته ببدء أمري فما زلت أقصده حتى مات ، وهذا قبره رحمه الله تعالى .
أخبرنا أبو بكر الصوفي ، أنبأنا أبو سعيد بن أبي صادق ، أنبأنا ابن باكوية ، حدثنا عمر بن محمد الأردبيلي ، حدثنا علي بن محمد القرشي ، حدثنا علي بن الموفق ، قال : حدثنا قال : خرجت ليلة وظننت أني قد أصبحت وإذا علي ليل ، فقعدت عند باب صغير ، وإذا بصوت شاب يبكي ويقول : وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك ، وقد عصيتك حين عصيتك وما أنا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرض ولا [ ص: 30 ] بنظرك مستخف ، ولكن سولت لي نفسي وغلبت علي شقوتي ، وغرني سترك المرخى علي ، والآن فمن عذابك من ينقذني ، وبحبل من أتصل إن قطعت حبلك عني ، واسوأتاه من تصرم أيامي في معصية ربي ، يا ويلي ! كم أتوب وكم أعود ، قد حان لي أن أستحي من ربي . منصور بن عمار
قال منصور : فلما سمعت كلامه قلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة فسمعت صوتا واضطرابا شديدا ومضيت لحاجتي ، فلما أصبحت رجعت ، وإذا جنازة موضوعة على ذلك الباب ، وعجوز تذهب وتجيء فقلت لها : من هذا الميت منك ؟ فقالت : إليك عني لا تجدد علي أحزاني ، قلت إني رجل غريب ، قالت هذا ولدي ، مر بنا البارحة رجل ، لا جزاه الله خيرا ، قرأ آية فيها ذكر النار ، فلم يزل ابني يبكي ويضطرب حتى مات .
قال منصور : هكذا والله صفة الخائفين يا بن عمار .
يا صاحب الخطايا أين الدموع الجارية ، يا أسير المعاصي ابك على الذنوب الماضية ، يا مبارزا بالقبائح أتصبر على الهاوية ؟ ! يا ناسيا ذنوبه والصحف للمنسى حاوية ، أسفا لك إذا جاءك الموت وما أنبت ، واحسرة لك إذا دعيت إلى التوبة فما أجبت ، كيف تصنع إذا نودي بالرحيل وما تأهبت ، ألست الذي بارزت بالكبائر وما راقبت :
قد مضى في اللهو عمري وتناهى فيه أمري
شمر الأكياس وأنا واقف قد شيب أمري
بان ربح الناس دوني ولحيني بان خسري
ليتني أقبل وعظي ليتني أسمع زجري
كل يوم أنا رهن بين آثامي ووزري
ليت شعري هل أرى لي همة في فك أسري
أو أرى في ثوب صدق قبل أن أنزل قبري
ويح قلبي من تناسيه مقامي يوم حشري
واشتغالي عن خطايا أثقلت والله ظهري
فمرت به ليلة في تهجده هذه الآية فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون فتفكر فيها وبكى واضطرب وغشي عليه ، فجعلت أمه تناديه ولا يجيبها فقالت له قرة عيني ، أين الملتقى ؟ فقال بصوت ضعيف : إن لم تجديني في عرصة القيامة فسلي مالكا عني ، ثم شهق شهقة فمات ، رحمه الله ، فخرجت أمه تنادي : أيها الناس هلموا إلى الصلاة على قتيل النار ! فلم ير أكثر جمعا ولا أغزر دمعا من ذلك اليوم .
هذه والله علامة المحبين وأمارات الصادقين وصفات المحزونين .
مآثم المذنبين ما تنقضي آخر الدهر أو يحلوا اللحودا
وحقيق أن ينوحوا ويبكوا قد عصوا ماجدا رؤوفا ودودا
كل ثكلى أحزانها لنفاد ولنا الحزن قد نراه جديدا
كيف تفنى أحزان من عاهد الله مرارا وخان منه العهودا
ويح نفسي ما أقول إذا ما أحضر الله رسله لي شهودا
ثم قال اقرأ ماذا عملت وجاوزت بما كان منك فيه الحدودا
ثم تخفي لما استترت من الخلق وبارزتني وكنت شهيدا
سجع على قوله تعالى :
التائبون العابدون
سبحان من وفق للتوبة أقواما ، ثبت لهم على صراطها أقداما ، كفوا الأكف عن المحارم احتراما ، وأتعبوا في استدراك الفارط عظاما ، فكفر عنهم ذنوبا وآثاما ، ونشر لهم بالثناء على ما عملوا أعلاما ، فهم على رياض المدائح بترك القبائح يتقلبون التائبون العابدون .
كشف لهم سجف الدنيا فرأوا عيوبها ، وألاح لهم الأخرى فتلمحوا غيوبها ، وبادروا شمس الحياة يخافون غيوبها ، وأسبلوا من دموع الأجفان على تلك الأشجان غروبها ، واشتغلوا بالطاعات فحصلوا مرغوبها ، وحثهم الإيمان على الخوف فما يأمنون التائبون العابدون .
ندموا على الذنوب فندبوا ، وسافروا إلى المطلوب فاغتربوا ، وسقوا غرس الخوف دمع الأسف وشربوا ، فإذا أقلقهم الحذر طاشوا وهربوا ، وإذا هب عليهم نسيم الرجاء عاشوا وطربوا ، فتأمل أرباحهم وتلمح ما كسبوا ، واعلم أن نيل النصيب بالنصب يكون التائبون العابدون .
نظروا إلى الدنيا بعين الاعتبار ، فعلموا أنها لا تصلح للقرار ، وتأملوا أساسها فإذا هو على شفا جرف هار ، فنغصوا بالصيام لذة الهوى بالنهار ، وبالأسحار يستغفرون التائبون العابدون .
هجروا المنازل الأنيقة ، وفصموا عرى الهوى الوثيقة ، وباعوا الفاني بالباقي وكتبوا وثيقة ، وحملوا نجائب الصبر فوق ما هي له مطيقة ، وطلبوا الآخرة والله على الحقيقة ، هكذا يكون التائبون العابدون .
أبدانهم قلقى من الجوع والضرر ، وأجفانهم قد حالفت في الليل السهر ، ودموعهم تجري كما يجري دائمة المطر ، والقوم قد تأهبوا فهم على أقدام السفر ، عبروا عليكم ومروا لديكم وما عندكم خبر ، وترنمت حداتهم لو أنكم تسمعون التائبون العابدون .
يا رب سر بنا في سرب النجابة ، ووفقنا للتوبة والإنابة ، وافتح لأدعيتنا أبواب الإجابة ، يا من إذا سأله المضطر أجابه ، يا من يقول للشيء كن فيكون التائبون العابدون . [ ص: 33 ]