كما علمنا أنه رتب  الفوز والفلاح على التكلم بالشهادتين مع الإخلاص والعمل بمقتضاهما      . فقد قال صلى الله عليه وسلم :  الإيمان بضع وسبعون      [ ص: 475 ] شعبة ، فأفضلها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق     .  
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم :  الحياء شعبة من الإيمان     .  
وقال أيضا :  أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا     .  
وقال أيضا :  البذاذة من الإيمان     .  
 [ ص: 476 ] فإذا كان الإيمان أصلا له شعب متعددة ، وكل شعبة منها تسمى : إيمانا ، فالصلاة من الإيمان ، وكذلك الزكاة والصوم والحج ، والأعمال الباطنة ، كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه ، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق ، فإنه من شعب الإيمان . وهذه الشعب ، منها ما يزول الإيمان بزوالها [ إجماعا ] ، كشعبة الشهادة ، ومنها ما لا يزول بزوالها ، كترك إماطة الأذى عن الطريق ، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيما ، منها ما يقرب من شعبة الشهادة ، ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى . وكما أن شعب الإيمان إيمان ، فكذا شعب الكفر كفر ، فالحكم بما أنزل الله - مثلا من شعب الإيمان ، والحكم بغير ما أنزل الله كفر . وقد قال صلى الله عليه وسلم :  من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان     . رواه  مسلم     . وفي لفظ :  ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل     . وروى  الترمذي  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :  من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله - : فقد استكمل الإيمان     . ومعناه - والله      [ ص: 477 ] أعلم - أن الحب والبغض أصل حركة القلب ، وبذل المال ومنعه هو كمال ذلك ، فإن المال آخر المتعلقات بالنفس ، والبدن متوسط بين القلب والمال ، فمن كان أول أمره وآخره كله لله ، كان الله إلهه في كل شيء ، فلم يكن فيه شيء من الشرك ، وهو إرادة غير الله وقصده ورجاؤه ، فيكون مستكمل الإيمان . إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل .  
ويأتي في كلام الشيخ رحمه الله في شأن الصحابة رضي الله عنهم : " وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان " . فسمى حب الصحابة إيمانا ، وبغضهم كفرا .  
وما أعجب ما أجاب به  أبو المعين النسفي  وغيره ، عن استدلالهم بحديث شعب الإيمان المذكور ، وهو : أن الراوي قال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، فقد شهد الراوي بغفلة نفسه حيث شك فقال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم الشك في ذلك ! وأن هذا الحديث مخالف للكتاب .  
فطعن فيه بغفلة الراوي ومخالفته الكتاب . فانظر إلى هذا الطعن ما أعجبه ! فإن تردد الراوي بين الستين والسبعين لا يلزم منه عدم ضبطه ، مع أن   البخاري  رحمه الله إنما رواه : بضع وستون من غير شك .  
 [ ص: 478 ] وأما الطعن بمخالفة الكتاب ، فأين في الكتاب ما يدل على خلافه ؟ ! وإنما فيه ما يدل على وفاقه ، وإنما هذا الطعن من ثمرة شؤم التقليد والتعصب .  
وقالوا أيضا : وهنا أصل آخر ، وهو : أن القول قسمان : قول القلب وهو الاعتقاد ، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام . والعمل قسمان : عمل القلب ، وهو نيته وإخلاصه ، وعمل الجوارح . فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله ، وإذا زال تصديق القلب لم ينفع بقية الأجزاء ، فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة ، وإذا بقي تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة ! !  
ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب ، إذ لو أطاع القلب وانقاد ، لأطاعت الجوارح وانقادت ، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة . قال صلى الله عليه وسلم :  إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب     . فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا ، بخلاف العكس . وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله ، فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت ، فمسلم ، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء ، فيزول عنه الكمال فقط .  
				
						
						
