الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 53 ] والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا  وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما  إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما  فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا  يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله جل جلاله : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس نزلت في المنافقين ، كانوا ينفقون أموالهم رياء ، لا لوجه الله ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا قال الكلبي : هذا في الآخرة ، يجعل الله الشياطين قرناءهم في النار ، يقرن مع كل كافر .

                                                                                                                                                                                                                                      يقول الله : ومن يكن الشيطان له قرينا صاحبا ، فساء قرينا يقول : بئس الصاحب الشيطان .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وماذا عليهم لو آمنوا بالله الآية ، هذا احتجاج على هؤلاء المنافقين الذين ذكرهم الله بأنهم لا يؤمنون بالله ، وذلك أن الإنسان يحاسب نفسه فيما عليه وله ، فإذا ظهر لها عليه في فعل شيء من استحقاق العقاب تركه ، وإذا ظهر ما يستحق من الثواب في عمل شيء عمله ، ولزم ذلك الشيء ، يقول الله : ليتفكروا ولينظروا ماذا عليهم في الإيمان لو آمنوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا حث من الله تعالى لهم على الإيمان والنظر في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، وصدقه ، والإنفاق في سبيل الله ، وهو قوله : وأنفقوا مما رزقهم الله ، قال ابن عباس : تصدقوا مما تفضل الله به عليهم ، وكان الله بهم عليما يعلم ما ينفقون رياء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله جل جلاله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة قال عطاء ، عن ابن عباس : لا ينقص مثقال ذرة من عمل منافق إلا جازاه ،  وإن تك حسنة أي : وإن تكن الذرة حسنة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قرأ - بالرفع - كان المعنى : وإن تحدث حسنة ، أو إن تقع حسنة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 54 ] قال ابن عباس : وإن تك حسنة يريد : من مؤمن .

                                                                                                                                                                                                                                      يضاعفها : بعشرة أضعافها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال السدي : هذا عن الحساب والقصاص ، فمن بقي له من الحساب مثقال ذرة يضاعفها الله إلى سبع مائة ضعف ، وإلى الأجر العظيم ، وهو قوله : ويؤت من لدنه أجرا عظيما يعني : تفضل عليه بأكثر من العشرة الأضعاف ، وقال الكلبي : "الأجر العظيم " : الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله جل جلاله : فكيف إذا جئنا الآية ، قال الزجاج : أي : فكيف يكون حال هؤلاء القوم الذين ذكرهم الله من المنافقين والمشركين يوم القيامة ، وهو قوله إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، قال المفسرون : يؤتى بنبي كل أمة يشهد عليها ولها . وجئنا بك يا محمد ، على هؤلاء : المنافقين والمشركين ، شهيدا تشهد عليهم بما فعلوا .

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المزكي ، أخبرنا محمد بن جعفر بن مطر ، حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سعيد بن مسروق ، عن أبي الضحى ، قال : قال عبد الله بن مسعود : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقرأ ، قال : قلت : كيف أقرأ عليك ، وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، قال : فافتتحت سورة النساء فقرأت حتى بلغت فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال : فغمزني بيده ، وقال : حسبك ، فنظرت إليه وعيناه تدمعان" .  

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المزكي ، أخبرنا عبيد الله بن محمد بن محمد بن بطة ، أخبرنا عبد الله بن [ ص: 55 ] عبد العزيز ، حدثنا أبو الكامل الفضيل بن الحسين الجحدري ، حدثنا فضيل بن سليمان ، حدثني يونس بن محمد بن فضالة ، عن أبيه ، وكان أبوه ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم هو وجده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر ، فجلس على الصخرة التي في مسجد بني ظفر ومعه عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ حتى انتهى إلى هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه ، وقال : "يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أره ؟" .  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل : (يومئذ ) يعني يوم إذ ذاك ، يعني يوم القيامة ، وهو إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، يود الذين كفروا يتمنون وعصوا الرسول في الدنيا ، والواو هاهنا : للحال التي كانوا عليها من معصية الرسول في الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                      لو تسوى بهم الأرض قال قتادة : ودوا لو تخرقت بهم الأرض فساخوا فيها ، وقال الزجاج : يودون أنهم كانوا والأرض سواء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن الأنباري : ودوا أنهم يستوون مع تراب الأرض ويدخلون في جملتها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 56 ] وقرأ نافع تسوى من التسوي ، يقال : سويته فتسوى ، والمعنى : تتسوى فأدغم التاء في السين لقربه منها ، وحذف حمزة التاء ، ولم يدغمها فقرأ تسوى مفتوحة التاء خفيفة السين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ولا يكتمون الله حديثا استئناف كلام في الإخبار عن الكفار ، أنهم لا يكتمون الله حديثا في القيامة لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير : هذا حين يختم على أفواههم ، وتتكلم أيديهم ، وأرجلهم فحينئذ لا يكتمون الله حديثا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية