الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله جل جلاله : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى قال المفسرون : صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ، ودعا أناسا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فطعموا وشربوا ، وحضرت صلاة المغرب ، فتقدم بعض القوم فصلى بهم المغرب ، فقرأ : قل يا أيها الكافرون فلم يقمها ، فأنزل الله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى  أي : لا تصلوا إذا كنتم سكارى .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 57 ] حتى تعلموا ما تقولون قال ابن عباس : يريد ما تقرءون ، وتثبتوا حدود الصلاة ، وتكبيرها ، وخشوعها ، فكان المسلمون بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر والشراب أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ولا جنبا الجنب : الذي يجب عليه الغسل لا يؤنث ، ولا يثنى ، ولا يجمع يقال : جنب الرجل يجنب جنبا وجنابة ، فهو جنب وأجنب مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      إلا عابري سبيل العابر : فاعل من العبور وهو قطع الطريق ، يقال : عبرت النهر والطريق عبورا .

                                                                                                                                                                                                                                      إذا قطعته من هذا الجانب إلى الجانب الآخر .

                                                                                                                                                                                                                                      روى الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم جنابة ولا ماء عندهم ، فيريدون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      قال عطاء بن يسار ، عن ابن عباس : في قوله : إلا عابري سبيل لا تقرب المسجد وأنت جنب إلا أن يكون طريقك فيه ، فتمر مارا ، ولا تجلس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال سعيد بن جبير : الجنب يمر في المسجد ولا يجلس فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا قول سعيد بن المسيب ، والحسن ، والضحاك ، وعكرمة ، والزهري ، ومذهب الشافعي ، وعند هؤلاء : يجوز للجنب المرور بالمسجد  إذا كان طريقه إلى الماء .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى الآية : نهي الجنب عن دخول المسجد حتى يغتسل وهو قوله : حتى تغتسلوا إلا إذا كان مارا بالمسجد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وإن كنتم مرضى جمع مريض ، وعني به : المريض الذي يضره مس الماء كصاحب الجدري ، والجروح ، والحروق ، ومن يتضرر باستعمال الماء .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 58 ] . . . . . . . . أو على سفر المسافر إذا أعوزه الماء  تيمم ، طال سفره أو قصر لهذه الآية ، قوله أو جاء أحد منكم من الغائط يعني الذي أحدث بالتبرز إلى الغائط وهو المطمئن من الأرض ، وكانوا يتبرزون هناك ليغيبوا عن أعين الناس ، ثم قيل للحدث غائط ، إذا كان سببا له .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أو لامستم النساء ، وقرئ لمستم .

                                                                                                                                                                                                                                      فمعنى اللمس في اللغة : طلب الشيء باليد هاهنا وهاهنا ، قال لبيد :


                                                                                                                                                                                                                                      يلمس الأحلاس في منزله بيديه كاليهودي المصل

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف المفسرون في اللمس المذكور هاهنا على قولين : أحدهما : أن المراد به الجماع وهو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وهؤلاء لا يحكمون بانتقاض الطهر باللمس ، وهو مذهب الكوفيين .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني : أن المراد باللمس هاهنا : التقاء البشرتين سواء بجماع أو غيره ، وهو قول ابن مسعود ، وابن عمر ، والشعبي ، وإبراهيم ، ومنصور ، ومذهب الشافعي ، وهؤلاء يوجبون الطهارة على من أفضى بشيء من بدنه إلى عضو من أعضاء المرأة .  

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا القول أولى ؛ لأن حقيقة اللمس في اللغة باليد ، وحمل الآية على الحقيقة أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فتيمموا صعيدا طيبا قال ابن عباس : فتعمدوا الأرض وتربتها ، والمراد بالتيمم هاهنا :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 59 ] التمسح بالتراب ، وذكرنا معناه في اللغة في سورة البقرة ، وأما الصعيد فقال أبو عبيدة ، والفراء : "الصعيد " : التراب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن الأعرابي : "الصعيد " : الأرض بعينها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : "الصعيد " : وجه الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشافعي : لا يقع اسم صعيد إلا على تراب ذي غبار .

                                                                                                                                                                                                                                      والطيب من الأرض : اسم لما ينبت بدليل قوله : والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم قال ابن عباس : تضرب بكفيك على وجه الأرض ، ثم تردهما إلى وجهك ، ثم تضرب الثانية بكفيك فتمسح واحدة بالأخرى إلى المرفقين .  

                                                                                                                                                                                                                                      والتيمم من خصائص هذه الأمة  ومما أكرمهم الله تعالى به ، وأما ابتداء التيمم فهو ما .

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو منصور بن طاهر التيمي ، أخبرنا أبو عبد الله بن يزيد الجوزي ، حدثنا علي بن الحسن الصفار ، حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك بن أنس ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، قالت : فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه على فخذي قد نام ، فقال : أحبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ قالت : فعاتبني أبو بكر ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء ، فأنزل الله آية التيمم ، فتيمموا .

                                                                                                                                                                                                                                      فقال أسيد بن حضير ، وهو أحد النقباء : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، فقالت عائشة : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد ،
                                                                                                                                                                                                                                       
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 60 ] رواه مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، ورواه البخاري ، عن إسماعيل بن أبي أويس ، كلاهما عن مالك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخبرنا أبو منصور ، أخبرنا القاسم بن غانم بن حمويه ، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد ، حدثنا مسلم ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن عمرو بن بجدان ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "التيمم طهور المسلم ولو إلى عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك فإنه طهور "  

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية