الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الزمجاري ، أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب المفيد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن السقطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا إسرائيل ، عن ثوير ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ، قال : ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء   .

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد التميمي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر الحافظ ، حدثنا محمد بن [ ص: 64 ] عبد الله بن رسته ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا حرب بن سريج ، حدثنا أيوب السختياني ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء   .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إني ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "   .

                                                                                                                                                                                                                                      فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ورجونا .

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا عمرو بن أبي عمرو المزكي ، أخبرنا محمد بن مكي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا مهدي بن ميمون ، حدثنا واصل الأحدب ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني آت من ربي فأخبرني ، أو قال : بشرني ، أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق" .  

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 65 ] وقوله : ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما أي : اختلق ذنبا غير مغفور .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : يقال : افترى فلان الكذب ، إذا اعتمله واختلقه ، وأصله من الفري وهو بمعنى القطع .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم قال ابن عباس في رواية الكلبي : نزلت في اليهود ، أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا .

                                                                                                                                                                                                                                      فقالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ، ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل ، وما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار ، فكذبهم الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى يزكون أنفسهم : يزعمون أنهم أزكياء ، وتفسير التزكية قد مر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : بل الله يزكي من يشاء يجعل من يشاء زاكيا ، قال ابن عباس : يريد : أهل التوحيد ، ولا يظلمون فتيلا قال ابن عباس : يريد : ولا ينقصون من الثواب قدر فتيل النواة ، يريد القشرة التي حول النواة فيما بينها وبين البسرة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفراء : الفتيل : ما فتلت بين أصبعيك من الوسخ .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو قول السدي ، وقال ابن السكيت : القطمير : القشرة الرقيقة على النواة ، والفتيل : ما كان في شق النواة ، والنقير : النكتة في ظهر النواة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الأزهري : وهذه الأشياء كلها تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير القدر أي : لا يظلمون قدرها ، قال النابغة :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 66 ]

                                                                                                                                                                                                                                      يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ثم لا يرزأ العدو فتيلا

                                                                                                                                                                                                                                      قوله جل جلاله : انظر كيف يفترون على الله الكذب هذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهي قولهم : يكفر عنا ما نعمله ، وكفى به أي : كفى هو يعني : افتراءهم ، إثما مبينا وتأويل هذا : تعظيم إثمهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يعني : علماء اليهود الذين أعطوا علم أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، يؤمنون بالجبت والطاغوت كل معبود من دون الله فهو جبت .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس في رواية عطية : الجبت : الأصنام ، والطاغوت : تراجمة الأصنام الذين يكونون بين أيديهم يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية الوالبي : الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الساحر ، وقال الكلبي : الجبت في هذه الآية : حيي بن أخطب ، والطاغوت : كعب بن الأشرف ، سميا بذلك لإغوائهما الناس ولطاعة اليهود لهما في معصية الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا وذلك أن حييا ، وكعبا لقيا قريشا بالموسم فقال لهما المشركون : أنحن أهدى طريقا أم محمد وأصحابه ؟ فقالا : بل أنتم أهدى سبيلا ، وأقوم طريقا ، وأحسن من الذين آمنوا دينا ، وهما يعلمان أنهما كاذبان ، حملهما على ذلك حسد محمد وأصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : وهذا دليل على معاندة اليهود لأنهم زعموا أن المشركين الذين لا يصدقون بشيء من الكتب وعبدوا الأصنام أهدى طريقا من الذين يوافقونهم على كثير مما يصدقون به .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أنزل الله فيهم قوله : أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ناصرا ينصره ، ومانعا من عذاب الله ، ثم وصفهم بالبخل فقال :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 67 ] أم لهم : على معنى : بل ألهم ، نصيب من الملك وهذا استفهام معناه الإنكار ، أي : ليس لهم ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله فإذا لا يؤتون الناس نقيرا قال الفراء : هذا جواب لجزاء مضمر كأنك قلت : ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس نقيرا إذا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : وتأويل إذا : إن كان الأمر كما جرى ، أو كما ذكرت ، يقول القائل : زيد يصير إليك .

                                                                                                                                                                                                                                      فتقول : إذا أكرمه .

                                                                                                                                                                                                                                      أي : إن كان الأمر على ما تصف وقع إكرامه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس : النقير : نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : وذكر النقير هاهنا : تمثيل ، المعنى لبخلوا بالقليل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل : أم يحسدون الناس الآية ، حسدت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من النبوة ، فقال الله تعالى : أم يحسدون الناس على معنى : بل أيحسدون الناس ، يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم ، وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الناس وهو واحد ؛ لأنه اجتمع عنده من خلال الخير ما يكون في جماعة ، ومثله قوله إن إبراهيم كان أمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : على ما آتاهم الله من فضله يعني : النبوة ، وقد علموا أن النبوة كانت في آله ، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة يعني : النبوة ، يريد ما كان في بني إسرائيل من الكتاب والنبوة ، وكانوا من آل إبراهيم لأنهم كانوا أولاد إسحاق بن إبراهيم ، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان ولد إسماعيل بن إبراهيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي ذكرنا قول الحسن ، وابن جريج ، وقتادة ، واختيار الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وآتيناهم ملكا عظيما قال مجاهد : يعني النبوة ؛ لأن الملك لمن له الأمر والطاعة ، والأنبياء لهم الطاعة والأمر .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 68 ] قوله عز وجل : فمنهم من آمن به قال ابن عباس ، والأكثرون : من أهل الكتاب من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من صد عنه أعرض ولم يؤمن ، وكفى بجهنم سعيرا عذابا لمن لا يؤمن .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية